ميشال جحا ابن البساطة والعنفوان
جورج شامي
بزجاجتين قطعت عمري وعليهما عولّت أمري
فزجاجة ملئت بحبر وزجاجة ملئت بخمري
فبذي أدوّن حكمتي وبذي أزيل هموم صدري
هذه الأبيات نظمها الحكيم الفارابي وبها دوّن الفيلسوف الفارسي والطبيب الرياضي الفلكي والشاعر الروحاني عمر الخيّام كلمته الخالدة بزجاجة من الحبر، لكنه عجز عن أن يزيل هموم صدره بزجاجة من الخمر… فعاش تائهاً بين الشك واليقين وبين الكفر والدين، غير مؤمن وغير كافر…
أما أنت أيها الشيخ الجليل الحكيم فلم ألمس أنك كنت تزيل هموم صدرك بزجاجة من الخمر وتضطر لأن تعيش في الشك واليقين وبين الكفر والدين، في آخر إصداراتك «أوراق من كتاب العمر – سيرة ذاتية». كنت ملتزماً بدينك ويقينك يا من خرجت من أرومة سليمة الجينات منيعة وقادرة على الصمود كلما ساورتها الفتن، مستقيمة بصلابتها المقتطعة من الأرز المقدس والسنديان الخلاصي «والتين والزيتون وطور سنين». لتبقى ثابت الجنان، جريئاً في قول الحق، صريحاً إلى حد البطولة ومصلحاً عادلاً نظيف الطوية شجاعاً ومغامراً، لا يهاب لومة لائم، ولا يسكت عن ضيم ولا يغض الطرف عن هنات، متسلحاً بوداعة الحملان… عفيفاً متنسكاً، شغوفاً بالخلق والإبداع، وكأنك تصلي فروض الإيمان، وأنت تتصدى لأعمال مبدعين أفذاذ، طواهم الموت لولا غيرتك واندفاعك وطول أناتك وإصرارك لغمرهم النسيان مع أعمالهم وطمرهم طمى الجحود والإهمال!
***
يا صديقي الكبير، منذ أن أمسكت بيدي ليلة الاحتفال بصدور عملك الضخم عن كتّاب القصة القصيرة في لبنان الذي جاء اشبه بالمهبراتا الهندية الشهيرة على تنّوع ما حوته من أقلام مبدعين وخلاقين وفاشلين، نساء ورجالاً وشباناً وكهولاً من كل الأعمار… وجذبتني لأقف إلى جانبك، وأنت تلقي كلمتك في تلك الليلة التي كنا نلتقي فيها لأول مرّة، كما أظهر إلى جانبك في الصورة التي نشرتها في كتابك، مقدماً صنيعك بغثه وسمينه لتثبت أنك أب لا يهادن أبناءه ولا يحرمهم من فرح النجاح وحتى من السقوط في الفشل الذريع فتقضي عليهم وعلى أعمالهم الفاشلة، فساويت بين من ألّف وكتب مجموعة قصصية واحدة في كل حياته الأدبية ومعاناته في هذا اللون من الأدب وذاك الذي تجاوزت مجاميعه العشرة أو العشرين عداً ولتبرهن أنك لست ولن تكون جلاداً بل رحيماً ومشجعاً ومنشطاً وقادراً على العطاء!
في تلك الليلة تركت فيّ بصمة رعاها الله لأن تكون كحبّة البركة في خفقان العلاقة بيني وبينك. وبتنا فرسي رهان نتباها بأعمالنا ومقدرة كل واحد منا في إثبات وجوده، وعند هذا الحدّ برزت انسانيتك وذوبانك في كل صنيع خرج من بين يديك… وقد صرفك اهتمامك بأعمال من سبقوك عن اهتمامك بقدرتك على الخلق، وذاع لك صيت الكبار من أمثالك أنك خير الكرام الذين شقوا طريقاً سليماً لهم ما حادوا عنه وكأنك أنت المسؤول عن هذا النهج في العطاء وهذا النمط الخلّاق الذي أصبح في سجل أعمالك ، وأعمال من قلدوك اختصاصاً لا يجادلك به أي منتحل صفة أو أي دعي.
***

يا صديقي، أيها الشيخ الجليل الحكيم…
أنا محروق وأتعبني التفتيش عن جوانب من أوراقك في هذا الكتاب الزاهي بألوانك وروحك الشابة… والذي تعتبره أنت نوعاً من «سيرة ذاتية» وأرفض أنا التسمية.
فتشت في أوراق عمرك عن الخمرة فلم أجد في مطاويها دمعة واحدة، تبرق زهواً!
وفتشت عن المرأة في ظلال أوراقك فلم تلح لي ابتسامة.
وفتشت عن طفولتك في بشمزين فلم أتبين لك أثراً ولا وقعت حتى على صندل من صنادل الطفولة.
فتشت عن غربتك في المانيا إبان دراستك فلم أقع على متكأ لا في «فرانكفورت» ولا في «بادن بادن»، ولا في «دوسلدورف»، ولا في «فيسبادن» ولا في «برلين»…
وفتشت عن العشق في مطاوي الأيام وتضاريسها فخانني التفتيش وأرهقني!
وفتشت عنك في الملاهي والكازينوهات فلم أقع على أثر ولا على مقر حتى على الرصيف.
وفتشت عنك في الخمارات فلم يلّوح لي إصبع بلفتة!
وفتشت عن تعابير نابية في نصوصك فخاب ظني!
وفتشت عن «مادة شاذة» في مضمون نصوصك فصفعني سوء النية.
وترصدت نشاز الأوتار التي تعزف عليها فتوترت أصابعي وهي تنشد خجلاً بهدوء يهزّ المشاعر !
وتميّز فضاؤك الأدبي والفكري والتربوي والإداري بالعناد الشريف المتباهي بوطنيته وشموخه وقوميته وان آخذت على كثرة ساحقة صفاءها المغشوش وخداعها وأنانيتها ودونيتها!
ما التقينا يوماً إلّا وأنت تقبض في يديك على أكثر من كتاب وتتأبط أكثر من مجلة وصحيفة يومية ودورية فصلية مما يدلّ على شغفك بالقراءة والمطالعة والتخطيط لمقال «لاذع الحماوة» أو بارد الهناءة مصبوغاً بعنفوانك وأخلاقك.
كنت «البعبع» وما زلت… وكنت العندليب … ومازلت وكنت الراصد المحبب والمؤنب الورع والناقد الشفاف ، وكنت المسامح والشفوق… فأين خبأت أزمنة الطيش والعربدة وانفردت بهذا النعيم من المودات تحيي فيه الأمل لدى اليائسين وتقيم الموتى من القبور وهي رميم؟
***
في الشعر في النثر، في القصة، في النقد ونقد النقد، وفي التحليل كنت البارع، وأنت تكشف عن العورات وتنقي وتنخل وتغربل ما استطعت «إضبارات» وأعمال أفذاذ شغلوا الساحة الإبداعية ورحلوا بغتة عن هذه الفانية فبيضت صفحات أعمالهم التي تركوها رهينة الإهمال والضياع أو التسكع والرداءة. وفرضت على نفسك هذه الوداعة والطيبة المقرونة بالخفر… وما زلت تكتب بمحبة وصدق وإيمان ولا تساوم… وذهبت بي قناعتي إلى حد التساؤل: هل أنا في حضرة رجل دين أم رجل دنيا؟

***
صحيح أنك تتطابقت مع النعيمه في «الغربال» و«كان ما كان» وفي سيرة «جبران خليل جبران» و«زاد المعاد» ولكن النعيمه توقف عن مشاغل الحياة وهمومها عند «البيادر» فقضى ما تبقى من عمره ينحت الصخر وينمي الشجر ويقطف الثمر تفاحاً وكرزاً شهياً يناغي البلابل وهديل اليمام وحفيف الأشجار، ولزمت أنت ارثوذكسية مطوقة بعبقرية شارل مالك التي ذهبت مذاهب المفاخر والعزة والعنفوان.
***
لقد نسيت ثراءك الفكري والمادي ودورك كمربٍ وكإداري لتستحيل عبداً لحرف تمجده وتقدسه وتجد من السعادة في تطويقه ما لا توفره لك أمتع اللذاذات من غير أن تهادن الزمن الذي ينهش حضورك بثعلبة ومكر.
أنت تتناسى أن الحياة شيء والفن شيء آخر فليس ما يكتبه الأديب من أمثالك دائماً تصوير تجربة حقيقية مرّ بها وان زايلك بعض الضنك.
لقد شخت أمد الله بعمرك ولكن عينيك مازالتا تدوران في محجرين مشعين خافقين بتعابير الحيوية والنشاط وأقرأ في تعابير وجهك المعّبرة على آثار السنين الجاهدة، وفي ناظريك مغامرة الحياة بحلوها ومرّها، ما بان منها وما خفي وما تفجّر واهتز بالأحاسيس النابضة بالأسى والكآبة واللوعة والذكريات الدفينة، ولكن هذا الحبر الذي يسيل من قلمك على الورق هو الذي يستأثر بأعماقك الوجدانية وتثير لدى القرّاء ضروباً من الانفعالات قد تكون مختلفة أو حتى متناقضة ولكنها تجمع كلها في النهاية على روعة انتاجك وعمق ابداعك وان رانت عليه أحاسيس المرارة والأسى فهي لا تنفك تنبض بالتمرد على الواقع والثورة على الوضع المخزي، وكأن في برديك مساً ممغنطاً يكهرب روح قارئك، معجباً كان أم ناكراً جاحداً، فيهتدي إلى معنى وجوده الحقيقي.
كتابك يا صديقي الغالي الذي حارى دعاة الكنفشة والغطرسة فيه وأصابه من نكد الدنيا وملعنة الخبثاء انه لم تُكتمل بين دفتيه خصائص السيرة الذاتية وجاء في رأيهم هجيناً لا يلتزم بصمة خاصة فريدة ومضمونه محيّر، هو كتاب وفاء نادر أولاً حين عزّ الوفاء وكتاب نقد ثانياً حين تحوّل النقد مديحاً وتبخير مجامر، وكتاب عتاب ثالثاً في زمن خان فيه المصلحون أمانة الصدق في ما يفعلون، جمعته من مقالات لك في الصحف، وبه غرقت في مثلث أشبه بمثلث برمودا وما استطعت فكاكاً من لعنة هذا الموقع الرهيب الذي أفزع البحارة والنوتية والسياح وعابري المجهول دون ما سبب وجيه أو فريد!
***
من منا ينكر عليك أو يجرؤ على أنك لم تستطع بمخزونك الأدبي وجهدك المتنوّع وإبداعك المتنوّر وأخلاقياتك الأثيرة أنك عنوان بارز من عناوين النهضة الثقافية الحديثة التي غمرتها ومازلت بهذا الدفق من التأليف والتثقيف ونبش الخفي والمستور من الكنوز ومازلت مصمماً على التغلغل في الأعماق كفلاح رأس شمرا الذي اكتشف بسن محراثه بلاطة توهجت حضارة عنوانها: اوغاريت!
يا صديقي الجليل فضلك لا ينسى ولن ينسى، ومعينك رقراق لا ينضب، وطيبتك لا تضاهيها طيبة، وبحرانك لا يدانيه شرود، وتأملاتك لا تجاريها تأملات رهبانية المطامع، ويصح فيك وبأعمالك قول قائل: إذا رأيت عبداً نائماً أيقظته لتعلمه كيف يطالب بالحرية!
أنت يا صديقي لم تدلّس على نفسك حين صرحت يوماً أن الصداقة جعلتك تتراجع عن الكشف على أجزاء من العيوب … وليس غير الصداقة تلقي على عينيك غشاوة فلا تميز بوضوح. أليست الصداقة في سلم «القيم» البشرية من أروع العواطف الإنسانية وأشرفها. فليتهموك ما راق لهم الاتهام وليموتوا في غيظهم!
أغنيت وغنيت ولكنك لم تحفر في الأعماق وتجاوز «غندولك» السابح نحو «جسر التنهدات» في مياه البندقية مكتفياً بالفيض الذي أعطاه ولسان حالك يردد: لن أكون طبالاً يقلق ضجيجه ويصم الأذان.
الذين أخذوا عليك أن مضمون كتابك لا يدلّ على أنه سيرة ذاتية انما أخذوا عليك أنك تفاديت «الاشباع في الثرثرة» وهم لا يدرون أن الأعمدة التي ارتكزت عليها في كتابك هي أعمدة قلاع ثابتة بمضمونها ومنيعة وخالية من الاسفاف والبذاءة وهي على العكس بلورية الوهج.
كتابك لا بل مجموع انتاجك ينساب بين يدي القارىء كأنه من سير الطوباويين حفظة الايمان الذي يوصي به النساك الأبرار في مناسك الزاهدين بهذه الدنيا ومتعها وملذاتها وهم يرددون : الله يرانا…
أيها النبيه، دون منّة، يا من تخطيت فؤاد افرام البستاني في «الروائع» وتخطيت ايليا حاوي في «البدائع»، وتخطيت جميل جبر في «منارات من لبنان» في سعيه الدؤوب على التفتيش كلما لاحت في الأفق بارقة أمل… لك التكريم ولك الفخار.
فأنرت أمامنا ظلام الظلمات ودروب العقوق ونكران الجميل التي تفرضها حقارة الانسان والتي إذا تراكمت شكلت طمى البراكين واندثرت رماداً محترقاً بالنسيان والاهمال والرفض.
أيها الصديق الكبير الذي أعتزّ بصداقته وبمسلكه الأدبي والفكري والثقافي والاجتماعي الذي شكّل لي اندفاعه المتواصل على الابداع متخطياً التعب هازئاً بالهموم، وما زال انتاجه الغزير ولا يستكين ويتحدى الجفاف والصحارى متخطياً حدود المعقول المرهون للمتعة ولا يستكين! باستطاعتك أن تنفض في كل لحظة الغبار وبكل فخر عن أرديتك وتتجدد مطلع كل فجر وغروب كل شمس والمئات من الحساد والغيارى والنفعيين يتناقلون أسلوبك شاؤوا أم أبوا، ويتناسونك عن قصد أو عن تقصير مأخوذين بالغطرسة والكبرياء سعياً وراء نص غريب ونصوص هزيلة ومنحلة في تراكيبها ويستوردونها كما يستوردون «السوشي» والهمبرغر، والبيتزا، والانديف والافوكادو والميري كريم ولا يتخمون!
يا طويل العمر! أيها المارد أبقاك الله لنا مثالاً شامخاً.
***
(*) ألقيت في الندوة حول كتاب «أوراق من كتاب العمر – سيرة ذاتية» للدكتور ميشال جحا في دار الندوة في بيروت، بدعوة من الحركة الثقافية انطلياس، “دار الندوة”، “دار صادر” و”دار نلسن للنشر”.