سجلوا عندكم

العودة إلى أغاني الطفولة عند جورج يمِّين في الموعد التاسع عشر

Views: 1218

 لميا أ. و. الدويهي

أسئلة فلسفيَّة ووجوديَّة عند الرَّحيل، الذي لا عودة منه، تَعود الإنسانَ وتقضُّ مضجعَه وتقلقُ راحتَه وعندما يبدأُ الشوقُ بالاعتمار والاختلاج في أعماقِ الإنسان، تُطبقُ عليه بإحكامٍ كقبضة الأسد على فريستِه التي لا يُفلتها حتَّى يَنهَشُها… كاملة، حتَّى… النِّهاية…

صورةٌ سوداويَّةٌ، تُشبهُ الموت تمامًا كما هو بحُلَّتِه الشَّاحبة الباردة الفارغة، بنهايتِهِ المظلمة، المؤلمة، القاحلة… فيهربُ الإنسان إلى ذاكرتِهِ بحثًا عن أحبابه، علَّهُ يلتقيهم في عطرهم، في تفاصيلَ تخصُّهم، تُبقيهم أحياء في الوجدان إلى ما لا نهاية، فيسكونَنا… وأحيانًا هذه السُّكنى تُصبحُ لبعضهم مَوتًا في قلبِ الحياة… ومَن أرادَ الانتهاء بموتِ الأحباب، فلهُ ما يشاء… ولكن… ستفوتُهُ فرصةَ اللقاء بالأحبَّة الأحياء في قلبِ الغياب… نعم! فلا موت يُميتُ بالمُطلق ولا نهاية تدومُ إلى المُطلق، ما دامَتِ الحياة تَسري في … الرُّوح… فطوباهُ مَن اخترقَ الموتَ وانطلقَ إلى الحياة من بعدِ الممات ولامسَ أطرافَ السَّماء وعاينَ الأحبَّة في عُمقِ الغياب وبلسم الجراح بنسمةِ الحياة وتَعَطَّر بعطرِ الرَّجاء…

ماريا يميّن تتسلم وابنها ماهر جورج يمين درع وزارة الثقافة

 

أبدأُ بـ«الزَّائر السَّنوي» الذي يترقَّبُ الموعد ويتربَّصُ بهِ، بأيِّ وقتٍ كانَ من السَّنة ويقتنصُ اللحظة ليظهرَ ويُعلنَ عن حضورِهِ… إنَّهُ ضبابُ إهدن الذي يزحفُ بانتظام، ولا يتأخَّر ليشلحَ رداءَهُ على أقدامِ  قمَمِ إهدن الشاهقة، مُلقيًا التحيَّة على مَن اجتمعوا سنويًّا في رحاب دير مار سركيس وباخوس، والذي صادفت الليلة احتفاليَّته بتذوِّق النبيذ الدَّيري، المستمرّ على مدى ثلاثة أيَّام، ليُكرِّس اللقاء في آخر ليلةٍ له، بتاريخ ٢٥ آب في تمام الساعة السادسة مساءً، إحتفاءً بمَوعِدِ جورج يمِّين الثَقافيّ… يبدو أنَّ ضباب إهدن المُحبَّب على قلبِ الشاعر، لم يَعُدْ يأتي ليُشاركَنا فقط الموعد، كأيِّ ضَيفٍ آخر، ولكنَّهُ باتَ يأتي لينقُلَ إلينا تحيَّةَ السَّماء حيثُ سُكنى الأحباب… فمَن كان قلمُهم شَّفافًا، كانت أرواحهم جزءًا من علياء، يعودون إليها من بعد الفناء…

ريمي بندلي

 

الموعد خفيفُ الظلّ بتنظيمِه وجديرٌ بالثَّناء بانتِقاءِ ضيوفِهِ، يُغنيك ولا يُصيبُكَ بالتُّخمى، يفيضُ بأرشيفٍ عامرٍ، ينفُضُ عنهُ الغُبار، يُنعِشُ ذاكرتَكَ ويُعيدُ إليها نَشوةَ الماضي الحاضر أبدًا في أذهانِ الكثيرين، لأنَّهُ تاريخَنا المُشبَع بالكلمة والنَّغمةِ وجزءٌ من إِرثنا وتُراثِنا القريب، وفي ما بعد البعيد… وهذه السَّنة كانت الرِّعاية لوزارة الثَّقافة المُمثَّلة بالأستاذ ميشال معيكي والذي قدَّمَ دِرعًا تكريميًّا لجورج يمِّين كثناءٍ على نتاجِهِ الفكريّ والأدبيّ، استلمته زوجته ماريَّا، رئيسة الجمعيّة وأحد أبنائها، فابنها البكر في أرض الاغتراب، بعيدٌ بالجسد، حاضرٌ بالقلب… كما وقدَّمَ آخرًا لضيفةِ الموعِد في نهايةِ وصلتِها الغنائيَّة الغنيَّة بكُلِّ الأبعاد الجماليَّة…

الأب ابراهيم بو رجل يلقي كلمته بعد تكريمه

 

ففي هذا العام، عادتِ الجمعيَّةُ أدراجَها، إلى البعيد البعيد، إلى الطفولة، إلى حيثُ بقيَ القلبُ عالقًا، يلهو ويلعب، يَمرح ويتسلَّى، خالعًا عنهُ همومَ الدُّنيا بكُلِّ أثقالِها وأحمالِها، هي التي تُصِّيرنا مع الوقت عجزة وكهلة، نرزَحُ تحتَ وطأةِ أعباءٍ تُحاربُ إنسانيَّتنا وتُدمِّرُ طفولةَ أجيالِنا وتُسيءُ إلى صورةِ كياننا المؤلَّهة بخالِقها، تلكَ الصُّورة التي جلَّها وغارَ عليها جورج يمِّين، قدَّرَها وقدَّسها وقدَّسَ أرضَ إهدن بكتاباتِه «المُرَوحَنة» فأضحى لقبه «شاعر إهدن»… من هنا، كانت العودة إلى أغاني الطفولة عند جورج يمِّين، هذه السَّنة، فسلكنا معهُ ومع ضيفة الموعد طريقًا إلى براءةِ الرُّوح وشفافيَّتها… وما أحلاها من عَودة!…

ممثل وزارة الثقافة ميشال معيكي يلقي كلمة

 

مَن منَّا لا يتذكَّرُ تلكَ الطفلة التي شغلتِ الملايينَ من اللينانيِّينَ والعرب، والتي غنَّت لهم الوطن ودعَتهم للسَّلام؟ مَن منَّا لا يُدغدغُ إسم ريمي بندلي في نفسهِ ذاكرةَ طفولتِه بكُلِّ معانيها؟… ها هي اليومَ تعتلي المسرح كفراشة، تُرافقها على الفلوت العازفة رنا عبيد وعلى البيانو العازف ألكسندر ميساكيان، لتُغنِّيَ تلكَ الرَّوائع التي ما فاقتها أيٌّ من أغاني الأطفال جمالًا، مؤدِّيةً بذلك تحيَّةً إلى روحِ مَن رسم لها بعضًا من خيوط طفولتها الذهبيَّة بكلماتِهِ السِّحريَّة… أمَّا الحضور فتذكَّرَ معها أجملَ الألحان والكلام ولم يتوقَّف لحظةً عن الغناء معها والدَّندنة طوال الأمسية، فلقد أعادَتنا جميعَنا أطفالًا نلهو في حاراتِنا، نَغسِلُ غُبارَ أيَّامِنا برنَّةِ صوتِها العذب الصَّافي… ها إنَّنا ننظرُ اليوم إلى امرأةٍ شابَّة، ناعمة، تأسُرُنا فيها تلكَ العيون وتسحرُنا بتلكَ البسمة الدافئة التي احتفظت بهما من زمنِ طفولتها… إنَّها تلكَ الطفلة ريمي التي كبرت ، تزوَّجت وبقيت نظراتها هي هي، مِرآةً لروحِها الشفَّافة وصوتها مُتلألئ حنون، عذبٌ، حفظته عبر السنين مع فارقٍ وحيد، أنَّهُ أصبحَ أكثرَ نُضجًا وسلاسةً… «أطربتنا» حوالي النصف ساعة بأمسيةٍ طفوليَّة غنَّت فيها «إيماني أحلى أيمان»، «طير وعلِّي يا حمام»، «يا جندي بلادي»، «بيتي احترق»، «غسِّل وجَّك يا قمر» وغيرها… أمَّا الختام فكان بالتأكيد مع «أعطونا الطفولي» التي استدعت معها على المسرح كلَّ الأطفال الذين رافقوا أهاليهم إلى هذا اللقاء الثَّقافيّ الطفوليّ بلا مُنازع… ولِمَن لا يعرف، فهذه الأغنية كانت الرابعة لإبنة الثلاث والنصف، ولدى تسجيلها في الاستديو حصلت مشكلة في الصوت وفُقد التَّسجيل الذي يحملُ اللحن، الأمر الذي أقلق والد ريمي، السيٍّد رينيه، لأنَّه كان لديهم موعد في القصر الجمهوري وهو لا يتذكَّرُ منه سوى بعض الجمل، إلَّا أنَّ والدة ريمي، السيّدة هدى، قد طمأنت زوجها لأنَّ ريمي كانت قد حفظت الأغنية، فلم يُصدِّق بادئ ذي بدء، إلى أن استدعتها والدتها وسألتها أن تُغنِّيَ تلك الأغنية التي يَعملُ والدها عليها ، ففعلَت وبذلك استطاع استرجاع اللحن وتسجيل الأُغنية… 

ريمي بندلي تتسلم من معيكي درع وزارة الثقافة

 

قدَّمت الحفل الإعلاميَّة جودي الأسمر التي وضعت أيضًا صوتها على الفيلم الوثائقي الذي تمَّ عرضه خلال الأمسية، ومدَّته حوالي الثلاث دقائق ونصف تحت عنوان «يا هالدَّهب خبِّرني» من إخراح كارل كميل سلامة وتوليف سيرجين فينيانوس، وتناولَ الفيلم أهميَّة أُغنية الطفولة لدى جورج يمِّين الذي كان قلقًا على طفولةِ لبنان التي استُبيحَت طوال سنين الحرب، هو الأبُ لطفلَين، رامي وماهر، اللذين يحلمُ لهما بوطنٍ مُغاير مِلؤهُ السَّلام، بوسع الأحلام… فكانتِ الأُغنية صرخة ومُناجاة، جسَّدَتها الطفلة ريمي بندلي بصوتها البريء العميق…

جانب من الحضور

 

وكلمة التَّرحيب طبعًا كانت لرئيسة الجمعيَّة الإعلاميَّة ماريا يمِّين وقد استهلّتها بدقيقة صمت عن نفس الفنان التشكيلي العالمي سايد يمِّين الذي غادرنا منذ أيَّام قليلة إلى حيثُ لا وجع ولا ألم بل راحة أبديَّة… وقد كرَّمتِ الجمعيَّة هذا العام الأب إبراهيم بو راجل الذي جعل من دير مار سركيس وباخوس مركزَ اللقاء السَّنوي لهذا الموعد الغنيّ بذاكرته، المُنمَّق باختياراته الثقافيَّة والفنيَّة…

أمَّا مسكُ الكلام وختامه فكان للأستاذ ميشال معيكي مُمثِّل وزير الثَّقافة الدكتور محمد داوود المُتشبِّع من فكرِ وقلم الشاعر الرَّاحل ووصفه بأنَّهُ «لم يُقلِّد أحدًا ولا انتسب الى مدرسة، وبأنَّهُ كتب على مزاج فكره» وختم بقولٍ لجورج: «ثمّة قبيلة لا يرحل أهلها إلاّ فجأة، يومضون وينطفئون ولأجسادهم حضور النَّيزك، إنَّها قبيلة الحبر والورق»…

وتنطوي الأمسية ويعودُ كُلٌّ منَّا إلى ديارِه، حاملًا في ذهنه وفؤاده ما استفاض من ألحانٍ وكلام، هما موقدة لروح الإنسان… ويبقى الموعد ثابتًا ننتظرهُ في كُلِّ عام، فإنَّ مَن رَحلوا يعودون دومًا بما يفوقُ المعرفة في الكيان…

                                                      

                                                     

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *