الشوارع اللبنانيّة المتجابهة!

Views: 758

د. مشير عون

(الأحد 27 تشرين الأوّل 2019)

يُحزنني أمرُ اللبنانيّين الأصفياء الذين يريدون الأمر عينه، ويدافعون عن القضيّة الإنسانيّة عينها، ولكنّهم يتصادمون تصادم القطعان في الشوارع المتدافعة! فإذا كان نهوض لبنان الإنسانيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ هو هدف جميع اللبنانيّين الأنقياء، فلماذا يتجابهون في الساحات العامّة ؟ الجواب المنطقيّ يملي عليّ، في براءتي الفلسفيّة، أن أفترض صراعًا حادًّا على تأويل هذه القيم العليا. غير أنّ ثمّة جوابًا آخر ممكنًا، أستخرجه من وقائع الانعطاب اللبنانيّ، وبه أخالف هذه البراءة المثاليّة. اللبنانيّون النزيهون يتعاركون خطابيًّا الآن في ميادين النضال السياسيّ نصرةً لأحزابهم ولأيديولوجياتهم ولمقامات زعمائهم ومصالحهم الخاصّة. أمّا صرخة الفقير، وأنين الجائع، ونكبة المنهوب، ولوعة المريض، وإحباط العازم المبتكر، فالسياسيّون، في معظمهم، أعمَوا بصرهم عنها.

في الافتراض الأوّل يمكن التلاقي والتحاور والتباحث وابتكار الحلول السياسيّة التدبيريّة الممكنة من أجل إنشاء حكومة نظيفة الكفّ، ومحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة، والإعداد لانتخابات نيابيّة واعية مقبلة. وهذه الأهداف الثلاثة هي من أوضح المسالك التي تقود المجتمع اللبنانيّ إلى تجاوز المحنة التي تعصف به. أمّا في الافتراض الثاني، فلا يمكنني أن أقنع الناس الذين ينحازون إلى هذا الحزب أو ذاك، أو يعشقون هذا الزعيم أو ذاك، أو يؤيّدون هذا التصوّر الأيديولوجيّ أو ذاك. ذلك بأنّ أشدّ المهمّات الحواريّة امتحانًا للعقل الحكيم أن يجمع المرء بين أناس خُتمت قلوبُهم بغشاوة المبايعة الوجدانيّة، أو بصفيح العقيدة الأيديولوجيّة، أو بضباب الاعتبارات الغيبيّة. 

حان الوقت للتحرّر من أوهام الهيمنة على الشوارع. فهل سنصرف جهدنا في مقارنة الشوارع، وقياس مستوعباتها البشريّة، والتغنّي بأحجام حشودها في كلّ أمسية ؟ ليعلم الجميع أنّ الثورات اللبنانيّة المتعاقبة انتُهكت في الشوارع، واستُغلَّت في الشوارع، وأجهضت في الشوارع. وكم من مأساة استولدها الشارعُ في لبنان، ورقص على أشلائها أصحابُ النفوذ السياسيّ في المعسكرات المتضاربة. صراخ الفقير والمنهوب والمظلوم هو محرّك الثورة ونَبضها ومَشعلها وحرارتها؛ لا شكّ في ذلك على الإطلاق. بيد أنّ نجاح الثورة هو في التدبير الحكيم الساعي إلى احتضان الاختلافات، والتبصّر في الممكنات، واستخراج الحلول التي تلائم الواقع اللبنانيّ.

لن تستطيع الشوارع المتقابلة أن تطفئ شعلة التحرّر التي أوقدها الشابّات والشبّان المعتصمون في الساحات الثائرة حين انتفضوا على الظلم والقهر والفساد والاستعباد. لن تقوى مخطّطاتُ الحشد المتوازن على إنهاك عزيمة المناضلين في سبيل الانعتاق من الطوائف، ومن الزعماء المؤلَّهين، ومن الأسياد العشائريّين الإقطاعيّين، ومن التقاليد البالية، ومن الأنظومات التشريعيّة المهترئة. من الممكن أن تخبو العزائم، وتتراخى الإرادات، وتضعف المقاصد النبيلة وتلتبس على أصحابها. إلّا أنّ الثابت أنّ مثل هذا الاختبار اللبنانيّ الصادق النادر ستكون له ارتداداتٌ بنيويّةٌ جليلةٌ في وعي الناس. 

يقيني أنّ اللبنانيّين في ميدان الثورة وميدان السلطة قادرون على تجاوز المحنة إنْ هم حرّروا قلوبهم وعقولهم وأذهانهم ونفسيّاتهم وبواطنهم ودواخلهم من إرباكات التقاليد السياسيّة اللبنانيّة، وأوهام الزعامات، وتدجيلات الأحزاب ومخادعاتها. فنهضوا نهضةً متضامنةً تصون لهم تنوّعهم الفكريّ المغني، وتمنحهم الطاقة على إعادة صياغة الوفاق اللبنانيّ السليم على أساس العَلمانيّة الهنيّة التي تميّز الدينيّات من السياسيّات وتدبّر تدبيرًا تقنيًّا محايدًا شؤون المدينة الإنسانيّة، وتؤهّلهم لتهذيب الأخلاق المتهالكة، وتشييد الخلفيّات التربويّة الصائبة، وإصلاح المنطق المنحرف، وتقويم الاعوجاج الاجتماعيّ المتفاقم، وإنشاء الخطاب السياسيّ المستقيم، وبناء الإدارة اللبنانيّة النزيهة. هي فرصةٌ نادرةٌ للجميع من أجل ترميم الهيكل اللبنانيّ الذي أفسده اللبنانيّون قبل غيرهم منذ انتهاء الحرب اللبنانيّة.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *