سجلوا عندكم

“أي استقلال للقضاء؟ تجارب دولية ولبنانية”

Views: 783

القاضي سهيل عبّود

(رئيس مجلس القضاء الأعلى)

السيداتُ والسادة،

ابدأُ مع كلماتٍ معبرة جداً لـ ConstantinCavafy فحواها:

 وحدَها الألهةُ تعرِفُ ما يُخبئُه الغد، وحدَها تملُكُ جميعَ الأنوار، والحكماء لا يُدرِكون من الغد سوى ما هو وشيك الوقوع، واحياناً، اثناءَ تأمُلاتِهم الملية، تتيقظُ حواسُهم، يتناهى اليهِم النداءُ الخفيُ للأحداث التي تدنو، وينصُتونَ اليه بورع…

,Les hommes connaissent le présent”

,Le futur est l’affaire des dieux

.Qui seuls sont les maitres des lumières

“…De l’avenir, les sagesperçoivent le bruit de ce qui approche 

وبعد،

لن اُطيلَ عليكم، ونحنُ في زمنِ مُطالباتٍ، او انتفاضةٍ، او ثورة، وفي زمنِ الحاجةِ الى حُلولٍ واِجابات، لا في زمنِطُروحاتٍاو نظريات.

لِذا ابدأ ُمع ثلاثِ كلماتٍ هي :شعبٌ قانونٌ وقضاء.

اِن هذه الكلمات التي تحمِلُ الكثيرَ الكثير من المدلولاتِ والمعاني، قد تتقاطعُ ايجاباً، فنصبحُ امامَ حُلمٍ بسلطةٍ قضائيةٍ مستقلة، او قد تتباعد وتتَجافى، فنكونُ امامَ استحالةٍ واقعيةٍ لتحقيقِ هذا الحُلمِ، فاينَ نحنُ من هذين الأحتمالين ؟

اِنَ الجوابَ بسيطٌ بساطةَ الحقيقةِ والواقع،وهو ما تضَمَنَه الكتابُ الخاص، الذي وجهتُهُ الى كل من زميلاتي وزملائي قاضيات وقُضاة لبنان بتاريخ 16/10/2019، وفيه رؤيتي للقضاءِ المستقِل، مورداً فيه حرفياًالآتي :

ليسَ بخافٍ على أحد، أَنّ القضاءَ اللبناني يمرُّ بأزمةٍ حقيقيةٍ، جعلت الجميعَ يتساءل عن دورِ سلطةٍ قضائيةٍ أو غيابِها، وعن بقاءِ وطنٍ أو ضَياعِه. 

من هنا رَغبَتي في مشاركتِكم – اي مشاركة قضاة لبنان – أفكارَ خُطةِ نُهوضٍ وتطوير، نريدُها جميعاً فاعلةً ومنتجةً، أساسُها وجوهرُها الآتي:

-1- اقتناعُ كلِّ قاضٍ، بأنّ السلطةَ القضائيةَ هي إحدى السلطات الدستورية الثلاث، التي أوليت سلطةَ إصدارِ الأحكامِ باسم الشعب اللبناني، وإحقاقِ الحق، بكلّ استقلاليةٍ وتجرد، وبأَنّها مؤتمنةٌ أيضاً، على إِرساءِ تعاونٍ مع السُلطاتِ الأخرى، ضُمنَ الأطرِ الدستورية والقانونية، في دولة يسودُها حُكمُ القانون.

(الإستقلالية تمثلت في بيانات مجلس القضاء، وكيفية مخاطبته السلطات الأخرى ندياً، وفي تركيزه في بياناتهعلى دستورية حق ابداء الرأي والتظاهر، مع المحافظة على الملكية الفردية وحرية التنقل، وفي مطالبته بوضع قانون الأستقلالية القضائية على اول جدول اعمال لمجلس النواب.  اما التعاون مع السلطات الأخرى فتمثل في مطالبة مجلس القضاءبضرورة اخذ رأيه في مشاريع القوانين المتعلقة بالعفو والمحكمة المالية، وهو ماتم لاحقاً فعلاً )

-2- اقتناع كلِّ قاض، بأنّه رُكنٌ من أركان السلطة القضائية، عند اصداره لأحكامه باسم الشعبِ الذي ينتظر حكمَه العادل، الجاري النُطقُ به بكلِّ شجاعةٍ وحرية.

( لا هرمية في القضاء، لكن تم عقد اجتماعات متلاحقة مع الرؤساء الأول ومع النيابات العامة وقضاء التحقيق لغاية الأطلاع والحث وتسريع العمل… )

-3- اقتناع كلِّ قاض، بأننا في مسيرةِ إصلاحٍ قضائيٍ ووطني، لواقعٍ تستّرَ بفسادٍإجتماعي، وبإفسادٍ بنيوي، وبإستقلاليةٍ وبهيبةٍ منقوصَتين، وبمعنوياتٍ مُثقَلة، وبمادياتٍ غير كافية، ما يفترضُ رِيادةً من القضاة، وتعاوناً من قبل نقَابتي المحامين، مع تحصينِ هذا المشروعِ الإصلاحي، بمواكبةٍ إعلامية بنّاءةٍ، وبتأييدٍ من المجتمع المدني وجميع اللبنانيين.

( معوقات مادية ومعنوية، حالة قصور العدل، المكننة، السجل التجاري، الأرشيف … علماً ان ميزانية وزارة العدل لا تشكل سوى 0،05 من ميزانية الدولة )

-4- اقتناعُ كلِّ قاضٍ، بأنّ دورَه الجوهري ومهامَه الجِسام في المجتمع، تتطلبُ منهُ شجاعةً وتواضعاً، وأخلاقياتٍ ساميةً، وجهوداً دؤوبةً، وتطويراً ذاتياً، وتضحيةً متواصلةً، في معرَضِ تشريفِه لموجبات القضاء.

وبأنَّ حريتَهُ واستقلاليتَهُ نابعتان من ذاتِه، وبأنّ حدودَهما هي قواعدُالمناقبية والأخلاقية القضائية.

-5-اقتناعُ كلِّ قاض، بأنّ أداءَهُ موجباتِه القضائية، سيتلاقى مع إعلاءِ مبدأِ الثوابِ والعِقاب، ومع تقييمٍلمناقبيتِهِ وعلمِه وعملِهِ، ما يشكّل أساساً لمناقلاتٍ قضائيةٍ تعتمدُ معاييرَ علميةً وموضوعيةً، مع التشديدِ على أنَّ كلَّ مُراجعةٍ أو توصية في هذا المجال، أياً كانَ مصدرُها ستنعكسُ سلباً عليه.

( تم اعتماد معايير موضوعية بموجب قرار من مجلس القضاء للتشكيلات، ستجري المناقلات من قبل مجلس القضاء فقط دون تدخلات من اي كان، بالأستناد الى اخلاقية وعمل وعلم كل قاض… )

كما أَنَّ أداءَ هذه الموجباتِ القضائية، ستواكِبُهُ مساحةُ حمايةٍ من مجلس القضاء الأعلى، قد تكونُ ضروريةً أحياناً ومساعدة، بوجهِ كُلِّ تعرّضٍ أوتدخل.

( الحماية من قبل مجلس القضاء ضرورية… )

-6- اقتناعُ كلِّ قاض، بأنّ أزمةَ الثقة بالقضاء تستلزمُ خطواتٍ شفافةً استثنائية، ومبادراتٍ أساسيةً، تُضافُ الى الموجبات السابقة، أوّلُها المبادرة الى رفع السرية المصرفية عن حساباته وحسابات عائلته…

( سيكون هناك شفافية في التعاطي، اطلاع الناس دورياً على وضع القضاء، ما انجز وما لم ينجز، اعلام، جردة حساب،  تم رفع السرية المصرفية من قبل اكثر من نصف القضاة … )

-7-اقتناعُ كلِّ قاضٍ، بأنّ اليومَ غيرَ الأمسِ، وبأننا جميعَنا شركاءٌ في مشروعِ نهوضِ قضاءٍ ودولةٍ ووطن، ما يفترضُ استنهاضاً للأرادات، وتحفيزاً للمُسلمات، وتنقيةً للذات، وصولاً وتوصلاً الى سلطةٍ قضائية مستقلة في خِدمة الوطنِ والمواطنِ والإنسان، ولا سيما أنّ هذه الخطواتِ كلَها، ستتلازمُ مع العملِ على إقرارِ قانونٍ يكرّسُإستقلاليةَ القضاء، بما يتناسبُ ويأتلفُ مع ضماناتِ القضاةِ والمتقاضين وتطلّعاتِهم.

وختمتُ كتابي بالتشديدِ على الزملاءِ القضاة، أَننا وحدَنا أصحابُ القرار، وأنّ لا مكانَ لتطبيقِ مفهومِ النسبيةِ في القضاء، فإِما أن نكونَ قضاةً نزيهين ومستقلّين، أو لا نكونَ قضاةً. فلا وجودَ لنزاهةٍ نسبيةٍ، أو فسادٍ مع تحفّظ.

وانهي اليومَ كلمتي بوعدينِ تمنيين،اولُهُما،بأَنَ استقلاليةَ قاضٍ او استقلاليةَ قُضاةٍ افراد، ستتحولُ الى استقلاليةِ سلطةٍ قضائية، وثانيهُما،بأَنَالمناقلاتِالقضائية، لن ترتكز على شرعية قرارِ التعيينِ والنقلِ فحسب، بل على  مشروعيةٍاكتسبها وسيكتسبُها كلُ قاضٍ من خلالِ ثقةِ المواطنينَ والمتقاضينَ فياَدائِه، وهكذا قد يتحولُ الحُلمُ بسلطةٍ قضائيةٍ مستقلة الى واقعٍ يتبلورُ ويتجسد خِدمةً للمواطن والدولة والوطن.

عاشَ القضاءُ المستقل،

عاشَ لبنان.

***

(*) كلمة الرئيس الأول لمحكمة التمييز القاضي سهيل نديم عبود في مؤتمر كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف حول موضوع “أي استقلال للقضاء؟ تجارب دولية ولبنانية”، الجمعة 29/ 11/ 2019.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *