سجلوا عندكم

الفيروس العاصي والشكّ العلميّ

Views: 834

أ.د. مشير باسيل عون

في  مَبحث الفيروسات والأمراض العصيّة ليس الظنُّ إثمًا! فالعلوم الوضعيّة، ومنها العلوم الطبّيّة، تعترف بحدود معرفتها، لا بل الاعتراف بالمحدوديّة هو سمة المسعى العلميّ المعاصر. يبدو لي أنّ العلوم الطبّيّة تطوّرت تطوّرًا جعل الإنسان يدرك أمرَين اثنَين: الأوّل بنية الكائنات الحيّة في معظمها، والثاني التفاعل الذاتيّ المناعيّ داخل الجسم الإنسانيّ. أمّا القول بقدرة الطبّ على شفاء الإنسان، فيجب الاتّضاع في إرساله لأنّ الطبّ لا يشفي، بل يهيّئ الجسم الإنسانيّ للشفاء الذاتيّ. 

إذا ما نظر المرء في حقيقة الأثر الذي تخلّفه العلاجاتُ الكيميائيّة والطبيعيّة في الجسم الإنسانيّ، تبيّن له أنّ الدواء هو الباعث على الشفاء، لا مُنجز الشفاء. مُنجزُ الشفاء هو الإنسانُ عينُه في كامل قوامه، أي في جميع مكوِّناته الجسمانيّة والنفسانيّة. حين يؤكّد الأطبّاء والعلماء أنّ الفيروس لا دواء له، يعلنون في صريح العبارة أنّ الكلمة الفصل هي لجهاز المناعة الذي يحتضنه الجسمُ الإنسانيّ في أبعادة اللامتناهية في الصغر. من الضروريّ تشريحُ الفيروس وتحليلُ مبانيه وحوامضه وبروتييناته ووظائفه وافتعالاته وآثاره. ومن المفيد أيضًا البحث عن ضوابط وكوابح ومماسك تُعطّل فيه أثره الهدّام الفتّاك. غير أنّ الثابت في هذا كلّه أنّ العلوم الطبّيّة لم تستطع حتّى الآن القضاء على الفيروسات. قد تتمكّن من الإجهاز على البكتيريا، ولكنّها تعجز عن التصدّي الناجع للفيروس، ولكأنّي بالفيروسات انبعثت بانبعاث الحياة، فوُجدت لتبقى تُساكن الإنسان ما دام فيه جرثومةُ حياة!

 

لا بدّ هنا من تذكير الجميع بأنّ عيلة فيروسات الكورونا ما برحت ناشطةً في مجرى الحياة الإنسانيّة، تنتقل من جيل إلى آخر، وتتحوّل من هيئة إلى أخرى، وتؤثّر في جهاز المناعة الإنسانيّة على وجوه شتّى. نسي الناسُ أنّ فيروسات السراس والسيدا والإبولا ومتلازمة الشرق الأوسط وسواها ما انفكّت تربض على صدور الناس، بحسب المعنيَين الحسّيّ والمجازيّ. فالطبّ لم يستأصلها، والخطر ما برح يتربّص بنا. الفرق الوحيد بينها وبين الكوفيد التاسع العاشر هو مقدار العدوانيّة. ذلك بأنّ فيروس السيدا ألجأ الناس إلى التعفّف الجنسيّ والتحوّط الملمسيّ، فيما الكورونا الأخير أكرههم على الاعتزال الجبريّ لوفرة انسيابه في جُسيمات الرذاذ المتطايرة من الفم الناطق.

في جميع الأحوال، يحتار العلماء والأطبّاء في اعتماد العلاج الأنسب والأنجع، ويختلفون في مسائل أساسيّة تتعلّق في تفسير العوارض العياديّة والمعاينات المجهريّة، وفي استخلاص العبَر وبناء الخطط الوقائيّة والعلاجيّة الجديدة. لا بدّ إذًا من اعتماد منهج الشكّ العلميّ الذي يعصم العلوم من الانجراف وراء اليقينيّات الصلبة، النهائيّة، القاطعة، الصمديّة. ذلك بأنّ الشكّ ليس إسقاطًا للعلم، بل استزادةٌ في المعرفة، وتحفيزٌ على البحث، وإرجاءٌ للحكم، وزهدٌ في الحسم الإغلاقيّ. الشكّ مراتبُ وأحوال، منه الجذريّ الراديكاليّ الذي نادى به الشكّاكون الإغريق، وبلغوا به حدود تعطيل حركة الحياة عينها. ومنه المنهجيّ التفطّنيّ الوقائيّ الذي اعتمده الفيلسوف الفرنسيّ رُنِه دِكارت (1596-1650) طلبًا لليقين النهائيّ المرتسم في الأفكار الفطريّة التي تستوطن العقل في أصل نشأته وتكوُّنه. وما لبث الفيلسوف الألمانيّ إدموند هوسِّرل (1859-1938) أن اقتفى الأثر حين نصح بتعليق الأحكام (الإبوخيا) سعيًا في الفوز بأغنى مضامين الاستبصارات التي يُنجزها الوعي، وقد انعقد على تطلّب الأشياء في زخرف تلوّناتها، وبليغ تجلّياتها، ومُختمر إفصاحاتها. 

 

أمّا الفيلسوف الذي بلغ بالشكّ العلميّ أقصى الحدود حتّى أضحى الشكُّ مرادفًا الدحضَ والإبطال البرهانيّ، فهو النمساويّ كارل بوبِّر (1902-1994) الذي كان يعتقد أنّ الحقيقة مقترنةٌ بالاختبارات العلميّة، وأنّ الاختبارات العلميّة لا تنشط في الفراغ، بل بالاستناد إلى النظريّات التي تتقدّم عليها، وأنّ النظريّات تأتي من المعتمدات المأثورة المتواترة ومن التصوّرات الأونطولوجيّة التي منها تنبثق النظريّات، وقد تكون هذه التصوّرات مِتافيزيائيّة، وهي في طور التحوّل إلى المرتبة العلميّة. بناءً على هذه الخلاصات العلميّة، أنشأ بوبِّر نظريّته في الدحض والترسيخ. يقوم الدحض على استجلاب حالات فرديّة تعاند منطوق النظريّة، فيما الترسيخ يستلزم تعزيز عصمة النظريّة العلميّة.  في يقينه أنّه كلّما تعاظمت مقاديرُ التعزيز والترسيخ والتوطيد النظريّ في نظريةٍ من النظريّات، امتنعت النظريّة عن اختبار بعض الحالات الطارئة المستحدثة، فضعفت ووهنت وتضاءلت رقعة احتماليّتها، لا بل إنّ ترسيخ عصمة النظريّة يمنع العلم من معاينة ظواهر جديدة لم يألفها الوعي العلميّ. لذلك ينبغي أن تظلّ النظريّة العلميّة قابلةً الدحض والإنكار حتّى تصون خصوبتها الاستكشافيّة وطاقتها الفتْحيّة.

من الواضح أنّ هذه الامتناعات التي تعيق العلماء عن معاينة مستحدثات واقعيّة جديدة لا تخضع لأحكام النظريّة المعتمدة المرسّخة إنّما تجعل هذه النظريّة معرَّضةً للطعن والبطلان والسقوط. لذلك كلّما كانت النظريّة العلميّة قابلةً التشكيك والدحض والإبطال الجزئيّ أو الكلّيّ، اتّسعت رقعة الانبثاقات الجديدة التي تطرأ على الوقائع، ممّا يتيح للأشياء أن تظهر في هيئات جديدة أو أن تُختبر في صوَر مستحدثة. ومن ثمّ، فإنّ الدحضيّات تغدو هي مصنع اليقينيّات العابرة أو العبوريّة أو الموقّتة.من المفارقة العجيبة أنّ ترسيخ حقيقة الاختبار العلميّ يمنع إمكان دحض بعض العناصر التي قد تنطوي عليها النظريّة من غير أن يكون الناظر قد سبق فعاينها. لذلك كان حظرُ الدحض إهلاكًا للنظريّة العلميّة. بمعنى أبسط، كلّما استطاع العلماء دحض نظريّاتهم، أثمرت هذه النظريّات فعلًا حاسمًا في وصف الأشياء والظواهر والموجودات والكائنات وتفعيلها وإخصابها واستثمارها.

في هذا السياق، يجدر التذكير بأنّ بوبِّر يرفض في الأصل نهج الاستقراء، أي الانتقال من الحالات الخاصّة إلى الحكم العامّ. ذلك بأنّ النظر في كلّ حالة على حدة وضمّ جميع الحالات على اتّساع إمكاناتها قبل بلوغ الخلاصة الناظمة لا يتيسّران للإنسان، إذ إنّ الكون مفتوحٌ على احتمالات لا تُحصى. فأين ينتهي إحصاء الحالات الفرديّة التي ستُبنى عليها الخلاصاتُ الناظمة والأحكامُ العامّة في منهج الاستقراء؟

 

وعليه، يعتصم بوبِّر بمسرًى متوقّل من استجلاء الحقيقة الاختباريّ. فالعلماء يستجلون أوّلًا المشكلة الأساسيّة، ويحاولون ثانيًا ابتكار الحلّ، ولكنّهم يُضطرّون إلى استئصال الأخطاء المنغلّة في الحلّ الأوّل الموقّت، قبل أن يعاينوا نشوء المشكلة عينها في بيان آخر وحلّة مختلفة وصوغ متنوّع. في جميع هذه الأطوار الاختباريّة الأربعة، لا يبلغ العلماء الحقيقة بلوغًا نهائيًّا حاسمًا، إذ ليس من حلٍّ قاطع خاتم في العلوم. مسرى العلم هو التحقّق والتصبّر، والترسيخ والتدعيم، والدحض والإبطال، والصوغ المرحليّ العبوريّ. ينتقل العلم إذًا من مشكلة أولى بيانُها مقترنٌ بالمعطيات الأولى إلى مشكلة ثانية بيانُها اغتنى بمعطيات التحقّق والتشكيك والدحض واستئصال الأخطاء. وهو لا يسير في اتّجاه الإمساك بالحقيقة وباليقين النهائيّ.

هو المسرى عينه الذي يسلكه العلماء والأطبّاء اليوم في تحليل الكوفيد التاسع عشر. وفي ظنّي أنّهم ينظرون في هذا الفيروس قبل أن يحلّلوه، أي يعتمدون تصوّرًا علميًّا أو نظريّةً علميّةً أو فهمًا ناظمًا أو خلفيّةً إبّيستِمولوجيّة قبل أن يحلّلوا مباني الفيروس الداخليّة. وبذلك يصدق كلام بوبِّر فيهم حين يعلن أنّ التصوّر النظريّ يتقدّم على الاختبار التحليليّ. من هنا تنشأ التباينات التأويليّة في تقصّي طبيعة الفيروس، وتحليل خصائصه، والتحرّي عن مفاعيله وآثاره. المهمّ في هذا كلّه أن يتّضع الإنسانُ لأنّ العلوم الوضعيّة، ومنها الطبّيّة، التي يُتّكل عليها في الفوز باليقين إنّما تسير في تأنٍّ جليل وفي خفرٍ عظيم. فما بالنا بالعلوم الإنسانيّة التي تبني معارفها على التحسّسات التقريبيّة، والتلمّسات الظنّيّة، والمداراة الاحتراسيّة؟

يحضرني هنا ما يقوله الفيلسوف الألمانيّ مارتِن هايدغر (1889-1976) في الحقيقة الاعتلانيّة التي يؤثِرها على الحقيقة التطابقيّة الأرسطيّة. في رأيه أنّ الحقيقة الاعتلانيّة تحتمل مساكنة الظلال والحجُب والمستترات، فيما الحقيقة التطابقيّة تفرض المماهاة المطلقة بين الذهنيّات والعينيّات، أي بين ما يقوله العقلُ قولةً واحدةً نهائيّة وما تتكوّن منه الأشياء، فلا تترك منفسحًا ضئيلًا للاستحداث المباغت. بيد أنّ الواقع هو غير ما تفترضه الحقيقة التطابقيّة، إذ إنّ ما تتكوّن منه الأشياء لا ينصاع انصياعًا عفويًّا إلى سلطة العقل، بل فيه قوّةُ تمرّد وعصيان تضطرّ الإنسانَ إلى القبول ببعضٍ من النقص في استعداد الأشياء للظهور الكامل، وبعضٍ من العجز المزمن في بنية العقل.

 

ومن ثمّ، يعرّف هايدغر الحقيقة تساكنًا بين الاعتلان والانحجاب، بين الإقبال والإدبار، بين الكشف والستر، بين النور والظلمة. ليست الحقيقة تطابقًا قاهرًا أو إطباقًا خانقًا، بل مسرًى حرٌّ من التجلّي المتوقّل المطّرد المصحوب بالانكفاءات الطوعيّة الخلاصيّة. حيّزُ الانحجاب في الحقيقة الاعتلانيّة هو الضمانة التي عاينها هايدغر، فأناط بها مسؤوليّة الترأّف بالعقل وبعجزه، ومسؤوليّة صون الأشياء ورعاية قابليّاتها اللامتناهيّة للانكشاف والإفصاح الذاتيّ.

خلاصة القول أنّ الفيلسوفَين هايدغر وبوبِّر يتناصران على ضبط حميّا العلوم في ادّعائها القدرة على الإمساك بالوقائع. العلوم الطبّيّة لا تستطيع إلّا الانتقال من مشكلة إلى أخرى، فيما حقيقة الشفاء تعمل خفيةً في تفاعلات جهاز المناعة الإنسانيّ الداخليّ الذي يعسر الإمساك بكلّ عمليّاته الإنقاذيّة.

إذا أراد المرءُ أن يستخدم تعاقب الاعتلان والانحجاب في استجلاء خصائص الكورونا العلميّة، اتّضح له أنّ ما يكشفه العلماء من الفيروس تنحجب فيه جوانبُ شتّى من التمرّد العلميّ هي بمنزلة القابليّات الإيجابيّة أو الوعود الاستكشافيّة الكامنة التي ستظهر رويدًا رويدًا على إيقاع الانتقال المتأنّي من إشكال إلى آخر، بحسب نظريّة بوبِّر. وهذا كلّه يرضى به العلماء الراسخون. مشكلتنا هي مع اقتصاديّات العلوم الطبّيّة التي تُصرّ على تمجيد مقولة الدواء الاصطناعيّ الشافي العجائبيّ. إنّها الاقتصاديّات التي تُجبرنا على فهم الطبّ إنتاجًا للعلاجات والأدوية وتسويقًا لها حتّى يتعوّد الناس ابتلاع العقاقير والحبوب والمضادّات الحيويّة. والحال أنّ الطبّ ليس بالإكثار من الأدوية، بل بفهم التفاعلات الدقيقة الناشطة بين عالم الخلايا الإنسانيّة اللامتناهي في الصغر والمؤثِّرات التي تنطوي عليها البيئة الخارجيّة. أصل المشكلة أنّ العلوم الطبّيّة حين تخضع لهذا المنطق الاقتصاديّ النفعيّ، تفقد قدرتها على استيعاب مسرى التشكيك العلميّ الخلاصيّ. ذلك بأن الاقتصاديّات الطبّيّة تزيّن للإنسان القدرة المطلقة على القضاء على الفيروس، في حين أنّ عمليّة أنْسَنة العلوم الطبّيّة تنقذها من هذا الغلوّ الاستهلاكيّ. لذلك يخالف منطقُ العلوم المتواضعة منطقَ الاقتصاديّات المشرئبّة المتحفّزة للانقضاض على وعي الإنسان المعاصر. وهنا ساحة المعركة الحضاريّة الأعتى.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *