ماذا يعني أن تودّع البريستول؟

Views: 1307

سليمان بختي

ماذا يعني ان يودع المرء اماكنه؟ أن تفقد بعض من ذاكرتك وأنت تعاني حاضرك ومرارة الايام وتقلق على المستقبل. أن تخش من كثرة الارتحالات أن لا يعود المكان يشبهنا ونشبهه. أوتيل البريستول هو إحدى معالم المدينة وعناوينها يطوي أوراقه ويقفل أبوابه.

تاريخ من تاريخ في المدينة ، وقطعة غالية في الجوار الاليف، وتحفة من تحف رأس بيروت تهوي. الاوتيل الفخم في عراقته كان مؤنسناً مع أبناء الجوار. كنا نمر قربه في بداية السبعينات كلما خرجنا من المدرسة الايطالية أو في العودة. ونتوقف بدهشة أمام الحارس أمين وهو يفتح الباب للركاب من السيارة أو المدخل بطريقة برتوكولية جميلة. وأثناء الحرب كان يزودنا بمربعات الثلج لمياه باردة في زمن العطش والظلام. طبع باسمه منطقة متكاملة في رأس بيروت بين الحمراء والفردان والصنوبرة والصنائع، وأعطى اسمه للقاء أول معارضة للوجود السوري في لبنان.

 

تأسس في العام 1950 وكان أصحابه من آل ضومط وصممه المهندس الفرنسي جان روبيار (1981-1902). وأداره لفترة جورج الريس أحد أمهر الطباخين في لبنان والعالم العربي. يروي سمير عطالله ان الريس عندما سافر الى فرنسا استقبله صاحب مطعم ماكسيم- باريس، وأنه أذهله باعداد 32 طبخة من الباذنجان. وظل المطعم مشهوراً بطبخاته وخصوصاً نهار الجمعة مع الصيادية والسمك المشوي. أو التفنن في إجاد الحلويات. ذات مرة أخبرني الصديق السعودي ابراهيم النجيدي ( رحمه الله) وكان عاشقاً كبيراً للبنان، ونزيلاً دائماً في أوتيل بريستول أن أحد أحلامه أن يشتري هذا الأوتيل أو يمتلك اسهماً فيه. وعرف الفندق من النزلاء المشاهير والرؤساء: جاك شيراك، والملك حسين، والياس سركيس الذي كان يجري فيه لقاءته واجتماعاته لمعركة الرئاسة 1976 ثم يذهب لينام في أوتيل الكارلتون. وكان ينزل فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكذلك رياض السنباطي في 1981 ومعه الالحان لفيروز. كان فيه لمسة ثقافية وحضارية واستقطابية لنشاط المجتمع في اللقاءات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. اجتماعات الليونز. تواقيع الكتب. في أوتيل البريستول التقيت بالشاعر محمود درويش وهو يوقع كتابه ( لماذا تركت الحصان وحيداً). وفي أوتيل البريستول أطلقنا كتاب (بيروت أمين الباشا) بمناسبة بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009. وقف أمين الباشا يوقع ويرسم ويغني كتابه لبيروت وعشاقها ومن مكان يليق ببيروت حضارة وتاريخاً.

وفيه أيضاً اطلقنا كتاب (وجوه نيرة في الجامعة الاميركية ) 2011 لميشال جحا بالتعاون مع جمعية خريجي الجامعة الاميركية وبحضور دولة الرئيس سليم الحص. والتقينا أيضاً في الذكرى الاولى لغياب الروائية اميلي نصرالله مع عائلتها والاصدقاء والمحبين. وفي الكوفي شوب سكبنا عشرات فناجين القهوة والساعات الجميلة مع أمين الباشا ورشيد الضعيف وجبران عريجي ومع الروائي جورج شامي والباحثة الهام كلاب البساط ورأينا النسخة الاولى من كتابه (رواية طويلة في سيرة عادية).

كان أوتيل البريستول في معنى المدينة جزءاً اساسياً من المكان الجميل وألفته، ومن الزمن الجميل ورونقه، وعنوان رقي وثقافة ومساحات مشتركة. كيف يمكن أن نثبت المكان في اللغة؟ كيف يمكن تشييد منطقة حرة في ذروة الكلام؟ كيف نسمح للمكان الذي في قلب مكانه أن يهرب من نفسه ومن أهله؟ كيف لم ننتبه الى شراكة المكان في صنع الذكريات وصنع الحياة؟ كيف نستقيل من شهادتنا الكبرى للمكان ونترك للحياة الوارفة أن تتعرى؟

الوطن أمكنة ووجوه ونجوم وحين تسقط هذه أو تلك أو بعضها فإن اجزاء من أراوحنا تسقط معها وحينها تجتاحنا سنابك الظلمة وجحافل الظلام.

***

(*) جريدة النهار 23 نيسان 2020 

 

 

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *