التكنولوجيا وسيولة كورونا

Views: 406

د. زهور كرّام*

لعلّ أحد أبرز نتائج التكنولوجيا الحديثة وحسناتها أنّها سمحت بدمقْرَطَة المعلومة، فتنفَّست البشريّة نبض الحريّة في التعبير والتواصُل والتقاسُم والتفاعُل. سارت البشريّة بإيقاعِ سيولة المعلومة، فغيَّر ذلك الحياة ونِظامها، وبدَّل التعاقُدات الاجتماعيّة، وطرحَ بدائل فرضت الانخراط السريع فيها. كلّ ذلك جعلَ المُستقبل يتقدّم بسرعة نحو الحاضر، فانتشرت الدراسات والبحوث السوسيولوجيّة واللّسانيّة والفلسفيّة التي تُسائل تأثير التكنولوجيا في إنسانيّة الإنسان إلى حدّ جعل البعض يتحدّث عن ميلاد إنسانيّة جديدة.

فجأة، وعلى حين غفلة، توقّفت السرعة؛ سرعة السير والمَسير، وتوقَّف معها إيقاع الحياة، ونِظام الاقتصاد، وأُرْغِمتِ البشريّة على العودة إلى فضائها الخاصّ.

لقد حلَّ وباءُ كورونا الذي اكتُشِف في كانون الأوّل (ديسمبر) 2019، في مدينة ووهان وسط الصين، ثمّ تفشّى في جميع أنحاء المعمورة، وباء وصفَته مُنظّمة الصحّة العالَميّة يوم 11 آذار (مارس) 2020 بالجائحة. أُغلقت المطارات والموانئ، وتعثَّر الاقتصاد، وارتبكَ الإنتاج، وتوقّفت المَدارِس والجامعات، وخَمَدَ إيقاع الحياة، فأُصيبت الأُسر بالحيرة، ثمّ عاد أغلب سكّان العالَم مُجبَرين إلى منازلهم، فشُلَّت الحركة في أكبر ساحات عواصم العالَم، وتوقَّف الطواف بمكّة المُكرّمة، وتأجّلت الصلاة في المَساجِد والكنائس والفضاءات الدينيّة. ولكنْ استمرّت سيولة المعلومة بنشاط التكنولوجيا وتطبيقاتها المُتعدّدة التي اقترحت على المجتمعات فُرصاً جديدة، بل مُغايرة للتعايُش مع الوضعيّات المُستجدّة.

فرضَ انتشارُ فيروس كورونا على مُعظم دول العالَم الانسحابَ فجأةً من الواقع المادّي والإقامة في العالَم الافتراضي باعتباره البديل الوحيد والأوحد لمُواجَهة الحجْر المنزلي، وتحقيق التباعُد الاجتماعي. ونظراً إلى فجائيّة الوباء، وسرعة تفشّيه، فقد حضرت التكنولوجيا وأضحت بوسائطها المُختلفة سلاحاً دفاعيّاً.

1. كورونا والإقامة في البيئة الافتراضيّة

انتقل وجود الشعوب بموجب العَيش في البيئة الافتراضيّة إلى وجودٍ شبكيّ تتحكّم به شبكات الاتّصال والتواصُل، ويَخضع لارتفاعِ درجاتِ التدفُّق المعلوماتي. فقد استُعيض عن التباعُد الاجتماعي بتقارُبٍ اجتماعي من خلال وسيطٍ شبكيّ، وهذا نَوعٌ جديد من التقارُب سيؤثِّر في نمط الحياة الاجتماعيّة المألوفة.

وبحُكم المدّة الزمنيّة للحجْر الصحّي، وما نَجم عنه من تباعُدٍ اجتماعيّ، تحوَّل الافتراضي إلى إقامة مُجتمعيّة ، يُمارِس فيها الأفراد حياتهم الاجتماعيّة والعمليّة والاقتصاديّة، ويستمرّ عبرها الإعلام في تقديم موادّه الإعلاميّة، ويتولّى السياسيّون إدارة الدولة ومؤسّساتها، ويتواصلون من خلالها مع المُواطنين. لقد أضحى الافتراضي بموجب وباء كورونا بيئة شبكيّة للمُجتمعات والسياسات. وإذا كان الانخراطُ في الافتراضي قبل زمن الفيروس اختياراً فرديّاً ومُجتمعيّاً وسياسيّاً، تُمليه إمّا ضرورة العمل أو الرغبة في التجريب، فإنّه مع الوضعيّة الاجتماعيّة المُستجدّة تحوَّل إلى إلزامٍ مُجتمعيّ واقتصاديّ وسياسيّ، على الصعيد المحلّي، وحتّى الدولي.

إنّ ما يحدث اليوم في هذه العلاقة الشبكيّة الخدماتيّة بين التكنولوجيا والمُجتمعات يُظهر بشكلٍ جلي، ما تحدَّثت عنه الدراسات الثقافيّة الرقميّة عن المَظهر المُزدوِج للثورة التكنولوجيّة، من خلال العلاقة بين التقنيّة والدراسات الثقافيّة، وقدرة هذه العلاقة على خلْخَلَة الوجود الإنساني كما تشكَّل تاريخيّاً. وبالتالي، فإنّ مُجمل المَفاهيم التي تمّ الحديث عنها في الدراسات والبحوث، والتي هي على علاقة بمُنجزات العصر الرقمي، مثل الافتراضي، والتقاسُم، وثقافة الولوج، والتفاعُل، والعلاقة الشبكيّة، ونهاية الوساطة، والابتكار، والإبداع، والاستقلاليّة والذكاء الاصطناعي، نشهد اليوم تحقُّقَها وتجلّيها في البيئة الاجتماعيّة الافتراضيّة.

2.التكنولوجيا وسائط دفاعيّة

تحوَّلت التكنولوجيا ووسائطها وتطبيقاتها إلى جنودٍ دفاعيّة لمُواجَهة الوباء، ومُقاوَمة الحجْر الصحّي، ومُواجَهة تحدّيات التدبير السياسي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي والإعلامي. لا يتعلّق الأمر بالدول المتطوّرة تكنولوجيّاً فحسب، أو التي تحضر التكنولوجيا عندها كخدماتٍ للتنمية والتدبير الإداري والتعليمي، بل حتّى بالنسبة إلى الدول النامية. حَدثَ ذلك باتّخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير، من أهمّها: إدارة العمل والتعليم والسياسة من المنازل، والإجراء التواصلي التوعوي، ثمّ تحويل المنصّات التكنولوجيّة إلى محطّاتٍ فنيّة وثقافيّة ووسائط للترفيه والموسيقى.

أ.الإجراء التعليميّ

بحسب اليونسكو، فإنّ نصف مليار من التلاميذ والطلبة تحوّلوا للتعليم الرقمي والتلفزيوني من منازلهم؛ هناك إغلاقٌ كامل للمَدارس في 102 دولة، وإغلاقٌ جزئيّ في 11 دولة. أمام هذا الوضْع، وَجدت مُعظم الدول نفسها مُجبَرة على التعامُل مع البديل التكنولوجي في التعليم من أجل إنقاذ السنة الدراسيّة، باعتماد أشكال التعليم عن بُعد بصيغته التقنيّة التعليميّة المُتعارَف عليها في المنظومة التربويّة العالَميّة، كما هو الحال بالنسبة إلى الدول المُتطوّرة تكنولوجيّاً، بخاصّة الولايات المتّحدة الأميركيّة والصين. أمّا بقيّة الدول التي فاجأها الفيروس، وهي ما تزال تفتقد للبنية التكنولوجيّة التي تسمح بتطبيق التعليم عن بُعد، مثل أغلب الدول العربيّة، فقد وَجدت نفسَها مُجبرةً على ركوب التحدّي بإمكانيّاتٍ مُتواضعة، والانخراط في التعليم عن بُعد بصيَغٍ مُتفاوِتة، سواء باعتماد منصّاتٍ تعليميّة مجّانيّة مُخصَّصة للمَدارس، أم باستثمار تطبيقات تسمح بمُشارَكة المعلومات بين أفرادٍ عدّة، أو اللّجوء إلى المَواقِع الاجتماعيّة مثل الفيسبوك، أو التطبيقات التكنولوجيّة مثل الواتساب، إلى جانب التعليم التلفزيوني.

ولعلّها تجارب وإنْ جاءت تحت ضغط الوضعيّة الوبائيّة، فإنّها ستُغيِّر أشياءً كثيرة، وستكون حافزاً أمام الدول العربيّة للانخراط في التعليم عن بُعد، بتهيِئَة شروطه التكنولوجيّة والتعليميّة والماديّة.

ب.الإجراء التواصليّ التوعويّ

يأخذ هذا الإجراء مَظاهرَ عديدة، منها ما يتعلّق بطريقة رصْد انتشار الوباء، والإعلان عن تدابير الدولة في الوقاية صحيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً. ولهذا، نُلاحظ نشاط حركة تواجُد السياسيّين في مَواقِع التواصل الاجتماعي والتطبيقات التكنولوجيّة؛ فقد تحوَّلت المَواقع الاجتماعيّة إلى مَنابِر إعلاميّة لتصريف المعلومة السياسيّة والصحيّة والاقتصاديّة، قبل الإعلام الرسمي أو الفضائيّات. وهو نشاطٌ يُطوِّر مفهوم التواصُل السياسي- المُجتمعي بين مُدبّري الشأن العامّ والمُواطنين، كما يَخلق ثقافة الثقة بين السياسيّين وأفراد المُجتمع.

تميَّز هذا الإجراءُ أيضاً ببروز ظاهرة الأطبّاء المُؤثّرين، الذين انخرطوا في التوعية الصحيّة المُجتمعيّة، بالتواصُل المُباشر عبر المنصّات والمَواقِع الاجتماعيّة مع الناس، من داخل المُستشفيات، للتوعية، ودعْوة الناس للبقاء في البيت. وهو ظهورٌ جعلَ الأطبّاءَ فئةً مُؤثِّرة رقميّاً في الوعي الجماعي، إلى جانب حركيّة نشطاء الفيسبوك، بخاصّة في المغرب العربي ومصر، وتويتر في الخليج العربي للوقاية من الوباء بالدعوة إلى البقاء في البيت، واقتراح بدائل جديدة للحياة في البيئة الافتراضيّة. أسهَم هذا الحضور الافتراضي التواصلي في تمتين قيمة التضامُن المُجتمعي التي ظهرت بقوّة بين أفراد المجتمع، من خلال الوجود الشبكي، ما عزَّز التدفُّق المعلوماتي، وتقاسُم التجارب، إلى جانب المُبادرات الفرديّة والمؤسّساتيّة التي ظهرت بقوّة لتقديم المُساعَدة في الدروس عن بُعد، أو اقتراح تحميل كُتبٍ إلكترونيّة، أو تقديم ورشات في التنمية الذاتيّة والنفسيّة للمُساعدة على تحمُّل الحجْر المنزلي، من أجل عودةٍ سالِمة إلى الفضاء الخارجي بعد كورونا.

ج. التدبير الثقافيّ الفنّيّ والترفيهيّ التكنولوجيّ

إذا كانت الحياةُ قد توقّفت في الفضاء الخارجي، فإنّ الفضاء الافتراضي نشِط بمُحاكاة الواقع. فقد تحوَّلت منصّات الفيسبوك والتويتر إلى محطّاتٍ فنيّة، يُقدِّم فيها الفنّانون موسيقاهم، والمُبدعون إبداعاتهم، كما انفتحت كبريّات المَكتبات العالَميّة على العموم، وسَمحت بالولوج إلى رفوفها، وعرْض موادها المَعرفيّة، وتقديم خدماتها الإداريّة بالمجّان وبلُغاتٍ عديدة لمدّة 3 أشهر، كما فتحت كُبريات المَتاحف العالَميّة أروقتها الفنيّة للجمهور من كلّ أنحاء العالَم، لزيارة معروضاتها.

وقامت مَكتباتٌ بتفعيل خدماتها بتقديم منظومةٍ مُتكاملةٍ مَعرفيّاً وثقافيّاً بشكلٍ تقنيّ عبر مَوقعها، منها استعارة الكُتب، ونسْخ صفحات المخطوطات. وظهرتْ مُبادراتٌ مؤسّساتيّة للمَكتبات الإلكترونيّة، مثل “أمازون” التي سمحت بالاطّلاع على 20% من صفحات الكِتاب مجّاناً، ووَضعتْ بعض دُور النشْر العربيّة على منصّة الفيسبوك روابط كُتبٍ وإبداعات للتحميل والقراءة. إلى جانب استمرار اللّقاءات والندوات الثقافيّة افتراضيّاً، مثل تنظيم مَركَز الدراسات الاستراتيجيّة في مَكتبة الإسكندريّة ندوة تفاعليّة افتراضيّة حول “جائحة كورونا وانعكاساتها المحليّة والإقليميّة والدوليّة“، والمُحاضَرة الافتراضيّة “التفكير في العَوْلَمة، التفكير في اللّايقين” من ضمن مشروع سلسلة مُحاضرات افتراضيّة لكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، جامعة محمّد الخامس في الرباط.

تُعتبَر اللّحظة التاريخيّة التي يعيشها العالَم مع انتشار الوباء، ووقوف التكنولوجيا سلاحاً للدفاع عن الأفراد، وتأمين حياتهم وإدارة أعمالهم، وتعليم أبنائهم، وتصريف خدماتهم الاجتماعيّة والصحيّة والاقتصاديّة، بمثابة التجلّي الفلسفي للتحوّل الذي تُحدثه الثورة الرقميّة في نمط الوجود الإنساني. إنّ كلّ الدراسات والأبحاث التي اشتغلت على انعكاس العصر الرقمي على نمط الإنتاج والاستهلاك، وعلى الحياة والتفكير كانت تعتمد الإحصائيّات السنويّة لمُستخدِمي الإنترنت، والمواقع الاجتماعيّة والتطبيقات التكنولوجيّة، من أجل تحليل معنى التحوّل. أمّا مع الوضعيّة المُستجدّة مع كورونا، فإنّ واقع تجلّي هذه العلاقة في الحياة العامّة، أَظهر بالملموس طبيعة هذا التحوُّل، وأُفقه في ما يخصّ طبيعة الوجود الإنساني بعد كورونا، وإمكانيّة التفكير في تصوُّرٍ جديد حول “إنسانيّة جديدة”.

  • كيف ستعود المُجتمعات إلى البيئة الواقعيّة بعد كورونا؟
  • هل ستنتقل تقاليد البيئة الافتراضيّة إلى الواقع الاجتماعي؟
  • هل ستخرُج المُجتمعات برؤية مُختلفة للوجود والحياة؟
  • هل ستُعيد الدولُ العربيّةُ تصوّرَها للمشروع التنموي انسجاماً مع تحدّيات الوباء؟
  • ماذا تعني “إنسانيّة جديدة” بعد كورونا؟

لكنّ الدَّور الخدماتي الدفاعي الذي قامت به التكنولوجيا لتأمين استقرار الحياة، تُرافقه مَخاطر تَحكُّم التكنولوجيا في حياة الأفراد والمؤسّسات والدول؛ إذ أبانت بعض الإجراءات التكنولوجيّة عن اختراقها لمبادئ حقوق الإنسان من خلال مُراقَبة الأفراد وتحرّكاتهم مع انتشار الوباء. ولعلّها قضيّة، وإن فُكِّر فيها في مؤتمرات ودراسات سابقة، فإنّها ستتحوَّل إلى قضيّة حقوقيّة كبرى، تضع الإنسان أمام خَيارٍ صعب بين الاعتراف بدَور التكنولوجيا في تأمين استمرار حياته والخَوف من خطورة الاستغلال التكنولوجي.

***

(*) أكاديميّة وباحثة من المغرب

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *