صلاح جاهين… “على اسم مصر” كتب ورسم وأبدع كل شيء
سليمان بختي
فنان متعدد المواهب. وهو أحد صناع الذاكرة المصرية والأرشيف العاطفي والوطني والثقافي والاجتماعي لمصر. صلاح جاهين (1930-1986) شاعر ورسام وكاريكاتوري وممثل مصري.
جمع كل هذه المواهب في روحه ونجح فيها كلها ولو تعب الجسم. ارتبط تاريخه الفني بتاريخ مصر و”على اسم مصر” كتب كل شيء ورسم وأبدع وترك إرثاً غلب عليه البهجة والصدق والفلسفة الساخرة السوداء.
ولد محمد صلاح الدين بهجت حلمي (صلاح جاهين) في شارع جميل باشا في شبرا. والده مستشار في القضاء ورئيس محكمة ولديه شغف بالفن والفنون. تزوج صلاح جاهين مرتين: زوجته الأولى سوسن زكي الرسامة بمؤسسة “الهلال” وأنجب منها ابنته أمنية وابنه الشاعر بهاء ثم تزوج من الفنانة منى جان قطان عام 1957 وأنجب منها ابنته سامية عضو فرقة اسكندريللا الموسيقية.
أنتج العديد من الأفلام التي تعتبر علامة فارقة في السينما المصرية مثل فيلم “عودة الابن الضال” والذي غنّت فيه ماجدة الرومي من كلماته وألحان كمال الطويل أغنية “مفترق الطريق” وفيها “حبيبي سكر مر طعم الهوى/ فرّق ما بينا البين/ ما عدناش سوا/ حرام عليك يا عذاب نبقى كده اغراب/ ده البعد والله جرح من غير دوا”. وكذلك فيلم “أميرة حبي أنا” وفيلم “خلي بالك من زوزو” الذي ألفه وكتب اغانيه، وقامت ببطولته سعاد حسني التي ارتبطت معه بصداقة قوية، واعتبر الفيلم الأكثر رواجاً في فترة السبعينات. وكتب “شفيقة ومتولي” و”المتوحشة” وظهر في احد مشاهده. كما شارك ممثلاً في “شهيد الحب الإلهي” 1962، و”لا وقت للحب” 1963، و”من غير ميعاد” 1962 و”اللص والكلاب” 1962 (بدور المعلم سلطان)، و”القاهرة” 1963، و”المماليك” 1965، و”موت أميرة” 1980، و”وداعاً بونابرت” 1985. ومن أعماله السينمائية والتلفزيونية أيضاً “العتبة الخضراء” 1959 (كلمات أنا هنا) “مسرحية الليلة الكبيرة” 1961، (تأليف). و”غرام في الكرنك” 1967 (كلمات الأغاني) “شيلني واشيلك” 1977، سيناريو وحوار، “شفيقة ومتولي” 1978 (تأليف) “المتوحشة” 1979 (تأليف)، فيديو كليب (اللعبة) 1985، مسلسل هو وهي (سعاد حسني وأحمد زكي) 1985 (مؤلف)، “اتنين على الهوا” 1985، مؤلف الأغاني و”اليوم السادس” 1986 (مؤلف الأغاني)، المحظوظة (1987) كلمات الأغاني و”انقلاب” 1988 (مؤلف) “رغبة متوحشة” 1992 (مؤلف).
عمل صلاح جاهين محرراً في عدد من المجلات والصحف واشتهر برسم الكاريكاتور في مجلة “روز اليوسف” و”صباح الخير” وجريدة “الاهرام”. وكان يُتابع بقوة متميزاً بخفة الدم المصرية والبعد النقدي البناء والوطنية الصادقة.
إلا أن قمة أعماله الشعرية كانت “الرباعيات” والتي تجاوزت مبيعاتها أكثر من 125 ألف نسخة في أيام. ولدت “الرباعيات” في رأسه بالصدفة ولبث يرددها طوال النهار. أبلغ رئيس تحرير “صباح الخير” أحمد بهاء الدين بأن هذه “الرباعيات” تلحّ عليه بالتدفق والكتابة فطلب إليه أن يكتب أربع منها كل أسبوع للنشر في المجلة. وهكذا كان. قال غير مرة لابنه بهاء إذا التاريخ سيذكرني فكشاعر وخاصة “في الرباعيات”. وعلى هذا النحو كتب: “مع أن كل الخلق من أصل طين/ وكلهم بينزلوا مغمضين/ وبعد الدقايق والشهور والسنين/ تلاقي ناس اشرار وناس طيبين/ عجبي”. أو هذه الرباعية مثلاً: “يأسك وصبرك بين ايديك وأنت حر… تيأس ما تيأس الحياة راح تمر/أنا دقت من ده ومن ده وعجبي لقيت الصبر مر وبرضه اليأس مر”. هذه الرباعيات لحنها سيد مكاوي وغناها الفنان علي الحجار الذي ارتبط بصداقة مع جاهين مثله مثل أحمد زكي وشريف منير. قام جاهين بتأليف أكثر من 161 قصيدة ومنها قصيدته الشهيرة “على اسم مصر” وقصيدة “تراب ودخان” إثر نكسة حزيران 1967 وكذلك استوحى من اوبريت العرائس اوبريت “الليلة الكبيرة”.
شكلت حركة الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو 1952 ورمزها جمال عبد الناصر مصدر وحي والهام له حتى لقب بشاعر الثورة. وخلد كل ذلك فعلياً بأعماله وسط عشرات الأغاني في ذكرى الثورة سنوياً وبالتعاون مع عبد الحليم حافظ وكمال الطويل، ومن هذه الاغنيات نذكر: “إحنا الشعب” و”صورة”، “يا أهلاً بالمعارك” و”المسؤولية”، “بالاحضان”. “بإسم الشعب”. “مطالب الشعب”. (https://valueteam.com.sg) بيانات سياسية ومواقف وطنية وأجزاء من خطب ناصر صاغها جاهين ببساطة وصدق وإيمان. وغنت أم كلثوم من أعماله وألحان وتوزيع كمال الطويل أغنية “والله زمان يا سلاحي” في فترة العدوان الثلاثي على مصر والتي أصبحت النشيد الوطني لمصر من 1960 وحتى 1979 وكذلك استخدمه العراق 1963-1981. وغنت أم كلثوم من كلماته “محلاك يا مصري” وعشية النكسة “راجعين بقوة السلاح”. أصيب صلاح جاهين بحالة اكتئاب قوية إثر النكسة وقال لعبد الحليم حافظ دامعاً: “إحنا ما كدبناش على الناس يا حليم… ولكن النظام السياسي انهزم”.
ولكن هذه النكسة ألهمته أهم أعماله “الرباعيات” وفيها أطروحات سياسية تحاول كشف الخلل في مسيرة الضباط الأحرار وانجازاتهم ويعتبرها الكثير أقوى ما أنتجه فنان مصري معاصر. ولكن الضربة القاصمة التي ضاعفت لديه الحزن والاكتئاب والمرارة هي وفاة جمال عبد الناصر 1970، وفاة الملهم والبطل ورمز كرامة مصر. وبعدها لم يستعد جاهين تألقه وتوهّجه الفني الشامل أبداً بل لعلّها غدت ضربات ولمسات ومشاريع صغيرة وخواطر. ظل صلاح جاهين خائفاً من الدنيا: “لو فيه سلام في الأرض وطمان وأمن/ وكان مفيش ولا فقر ولا خوف جبن/ لو يملك الإنسان مصير كل شـــــــــــيء/ انا كنت اجيب للدنيا مية ألف ابــــــــــن… عجبي”.

كتب لداليدا: “سالمه يا سلامة” و”كلمة حلوة وكلمتين حلوه يا بلدي”. وكتب لسعاد حسني “الدنيا ربيع والجو بديع”. ولكن بينه وبين نفسه كتب: “دخل الربيع يضحك لقاني حزين/نده الربيع على إسمي لم قلت مين/ حط الربيع أزهاره جنبي وراح/ وإيش تعمل الأزهار للميتين… عجبي”.
هل ترك وصية؟ يقول شعراً: “اوصيك يا بني بالقمر والزهور/ أوصيك بليل القاهرة المسحـــــــــــــور/ وإن جيت في بالك إشتري عقد فل/لأي سمرا.. وقبري أوعك تـــــــــزور… عجبي”.
كان صلاح جاهين يزور لبنان وارتبط بصداقات مع الأديبة الراحلة ليلى عسيران الحافظ وكان يرجوها أن تعلمه كيف تُلفظ كلمة “غطيطة” باللهجة اللبنانية. ومع الصحفي سمير صنبر الذي يروي في كتابه “عالم من ورق” إن صلاح جاهين أصرّ أن يصل إلى مقهى “الدولتشي فيتا” بسيارة صنبر القديمة المكشوفة واقفاً في المقعد الخلفي متذرعاً بأنه يريد أن يحيي الجماهير في رأس بيروت فهو أشهر رسام كاريكاتوري في مصر وصاحب نشيد “والله زمان يا سلاحي”.
اشتدت حالة الاكتئاب عليه وفتحت الباب لأمراض أخرى تفتك بالجسد. وهو المرهف المعجون بعشق الفن على أنواعه وألوانه. ما عاد الكلام يصل ولكن “قلبي مليان كلام”. وانتظر الحب قارباً للنجاة. ولبث يردد “مصر عندي احب واجمل الأشياء/ على اسم مصر/ التاريخ يقدر يقول ما شاء”.
وراح ينجز كلمات اغنيته الأخيرة “همّ دول المصريين”. انطفأ صلاح جاهين في 21 نيسان 1986 عن عمر ناهز 55 عاماً. مات شاباً. لو أن الأعمار تقاس بالأحلام والقصائد والحماسة. وكما كان يقول “أنا شاب وعمري ألف عام”.
صلاح جاهين ظاهرة. ذهب إلى المسرح ليمثل فرأى نفسه يغني. راح ليمثل فرأى نفسه يكتب سيناريو وحوارًا للسينما والتلفزيون. دخل إلى المجلة محرّراً فأصبح رسّامها الأول في مصر. كتب أغنية لأم كلثوم فصارت نشيداً وطنياً. الطفل الشقي يضيء ما حوله. وإذا سأله أحد عن سرّ ذلك؟ يقول بتواضع جمّ: “إن أفضل ما حصل لي هو إنني التقيت الأشخاص المناسبين في الوقت المناسب”.
وتبقى قصة حياته وفنه وحركته مرتبطة دائماً بالحوافز الوطنية وبعزّة بلاده وتاريخها ونضالها.
تحية إلى روح صلاح جاهين في الذكرى التسعين لولادته، تحية شعرية إنسانية وطنية لمبدع كبير وثائر حالم بقلب “زي النهار” وأطرى من زهرة برية وعقد فلّ.