عاصي ومنصور الرحباني… ثنائيّة متفرّدة
د. جيمي عازار ملكي
يحمل الأخوان هموم المجتمع ويتحدان بالذوات ويرسمان الحقائق كأنهما نقطة الوصول التي تسعى إليها رحلة الحياة، ويعيشان عمق الارتباط من خلال علاقتهما بالآخر، إذ يقرّب فرح الحياة وجمال الوجود المسافة، ويقيم توازنًا بين الروح والجسد، ويجذبنا إلى عالم شفاف حيث الخلاص.
وتبرز الجذور الإيمانية التي تنمّ عن حبّ كبير، فالفرح الرحباني فرح الطفولة، مصدر ولادة المشاعر الصادقة، والتفاعل الإنسانيّ والاجتماعيّ مع الآخر، وهذه الحقيقة المتجسدة بفعل الحب، تغتني بتجربة المغلوبين والضعفاء أيضًا لأنهم يطلبون الحرية ويعيشون المأساة بفرح ومشاركة.
كذلك الاهتمام بالروح والأسرار واضح في الأدب الرحباني٬ ٳذ ٳننا نجد دائمًا دعوة للسمو بالروح فوق الأحقاد وقد يكون هذا من جراء الاهتمام بالماورائيات كمحاولة لفهم الحياة.
أما الشعب الصامت الذي يسقط في التاريخ، فهو يرفض المعاناة ويقاتل ويحارب من أجل تغيير المجتمع، وقد تكوّن هذا الحائط نتيجة تراكم العقائد والذل والتواكل والخوف مما في السماء وعلى الأرض.
والفن الرحباني ينفعل في كل الاتجاهات التي تدور على ساحات الوطن٬ ومنها التجاذبات السياسيّة فهو متحد بقضية ما٬ والأخوان لا يسألان ماذا أعطاهما الوطن لأنه ينمو في ذاكرتهما٬ ٳنه أرض الطفولة٬ وشباك الحبيب٬ والسهرات٬ وليالي القمر.
والسياسيّون في لبنان يفتقرون ٳلى الرؤية والتفكير الحضاري فضلاً عن حاجتهم ٳلى الحب ٬ والبلد الصغير كلبنان جذّاب بما فيه من خدمات يستغلّها الغريب لذلك علينا أن نبلغ ٳرادة التواصل بيننا وأن نحييها بالحب حتى تستقيم كل المؤسسات.

لذلك لا بدّ من دستور يراعي وقوانين تطبّق والحكم للكل مجتمعين ومتحابين٬ وهذا يعني تربية على التوحد الوطني٬ فالآلام الحاضرة قد تكون مرحلة على ما يرجو الجميع حتى يستيقظ الوطن من الموت .
ولا تقوم علاقة بين كائنين إلا على قدر ما يكون في طبيعة الطرفين من التجاوب والمطاوعة، لكن عاصي ومنصور انفصلا في الشعر والذاكرة والفكر ليدافعا عن الشعب ويتكافأا معه ويحملا معاناته.
إنهما يتصارعان مع القدر ويعيشان معه في تحدّ مباشر، لذلك أعلنا وبإرادة قوية المواجهة التي تنبعث من الإيمان، فهما موسومان بالفرح لأنهما ينتصران على الذات والموجودات الأرضية.
ولكي يكون الصلاح، يجب أن يكون الشعب قوياّ، مؤمناً بالبقاء، متلازماً مع حب الوطن، فيظهر فعل البطولة في فرح الحياة، وفرح الإنسان الجديد.
ويبرز الصراع في مسرح الأخوين عندما يحارب الإنسان أخاه في سبيل المادة، وفي الحب عندما يتغلب الصراع على حياته، خصوصًا صراع القلب والعقل، الخير والشر.
وقد أصغى الاثنان إلى تاريخهما الداخلي والخارجي ليصوغا المعاني فتتحوّل إلى مادة مخزونة في الذاكرة ومهيأة للانطلاق نحو المستقبل.
وكما كان الفكر الرحباني يربط الفن بالأخلاق تارة بشكل مباشر وطورًا بشكل غير مباشر٬ هكذا كان يربط الفن باﻹيمان أيضًا٬ اﻹيمان بالله ٳله الجميع ٬ الذي تعرفه مخيلة الشعوب .
إن التحوّل فعل حركة وقيامة لأنه يدفن القديم الزائل، ويبعث الجديد حيًّا فرحًا، ويخفي البذور الميتة ليطلق جوهر المتحوّل دون أن يفصله عن الجذور.
ولم يقتصر انشغال الأخوين بنموذج السياسة والقدر وخيانة الأوطان، بل التزما الكيان الحضاري الكامل، فنراهما يجسدان حلمها بالأسطورة لأنها غدت غير منفصلة عن الحياة اليومية والأحلام.
وقد حوّلا الحلم إلى موقف بطولي شاعري، تكون الكذبة فيه رمز الحياة، كونها تحاول تجديد الواقع وتلوينه، ولم يتوقف الأخوان عند النظرة العابرة إلى الأشياء، ولم يقتصر عملهما على الوصف فقط، بل تعدّى ذلك إلى العمق والمشاركة وإن من خلال الحلم.
وسألنا عاصي ومنصور أن نعود ٳلى أيام “فخر الدين” لنعمّر الجسور وننشر الأغنية سلاحًا ندافع فيه عن لبنان٬ ويذكّرنا المبدعان بأن موسم الفرح سيعود حين ينكشف ” راجح” الكذبة من “راجح” الحقيقة.
هناك كذبة نبحث عنها دائمًا لنكتشف حقيقتنا٬ وقد شاركت العناصر في هذه المفاهيم لأن الأخوين ربطا جذورها بالحياة متأثرين بحقيقة التكوين البشري.
مما لا جدل فيه أنّ اﻹنسان هو أرقى الكائنات والمخلوقات والموجودات٬ فهذه الأخيرة ما زالت على حالها من حيث الأداء٬ بينما اﻹنسان هذا الكائن القلق على مصيره٬ المبدع في عمله٬ بدّل وجه الأرض وأسلوب التعاطي معها٬ فتراه في أعمال الأخوين يحلّق بخياله أو كذبته ٳذا جاز التعبير ٳلى عالم بعيد اﻹدراك٬ مجاورًا في تصوّراته ٳله العالمين.
لقد دأب عاصي ومنصور على بناء عمارة شامخة من الفن وقد شاركا في صنع الصورة والواقع والانتماء والآفاق٬ وكانا أمينين للانتماء اللبناني والعربي ولحلمهما بالنهوض.
نراهما يواكبان الصراعات اللبنانيّة من خلال علاقة تفاعل وتجاذب مع الايديولوجيا السائدة٬وهي لاوعي العمل الأدبي الفني ٳذا جاز التعبير.
ولا يمكننا انكار دور عاصي ومنصور في انتاج الفولكلور اللبناني وتحويله ٳلى ثقافة شعبيّة٬ وهما بذلك ينتجان استمرارية بين الماضي والحاضر ويبتكران رموزًا للتاريخ والوطن ٬ فالمسرح الرحباني يروي قصة لبنان منبت الثقافة الشعبية.
في شعر المسرح الرحباني ما نحن بأمس الحاجة ٳليه اليوم:
وحدة وطن٬ التمسّك بالأرض٬ رسالة المحبّة والتضحية٬ ويحتاج الناس ٳلى أن يتعلّموا من تراث هذه العائلة وما حملت من قيم أخلاقية مشهود لها.
أما في موضوع الوطن فقد آمنا بوحدة الأكوان ورسما الروح في المادة حتى ٳذا ما تمّت التحوّلات ظلّ الجوهر الرحباني قائمًا.
وكان لعلاقة الأخوين باﻹنسان الآخر والقيم الاجتماعيّة سببان: محبة في طبعهما وحاجة ملحّة للارتباط بالزمن. والقضايا الوطنيّة كانت باﻹجمال مقدسة وحملت هموم اﻹنسان والمجتمع واختصرت الكون في ذرات كيانها.
يحمل الحلم الرحباني التصميم على الجديد فهناك جدلية بارزة في أعمالهما وهي الوعد/الحنين فشخصيات المسرح الرحباني أناس موعودون ينتظرون الحقيقة والخير والجمال.
كلمة تقال يوم غياب عاصي الرحباني: “الكبار ما بفلو والوطن باقي كل ما في قلم حرّ”.