ناديا جمال (1937-1990)… صورة الذكرى وعالم الرقص وحلم الظفر بإيقاع المجد

Views: 2220

سليمان بختي

ناديا جمال (1937-1990) رائدة في فن الرقص الشرقي في لبنان ومصر والشرق الأوسط، أوصلت الرقص الشرقي إلى أوبرا فيينا وأفردت له دوراً وحضوراً مستقلاً في المهرجانات اللبنانية والعربية والدولية. أسست مدارس للرقص الشرقي في نيويورك ولوس أنجلوس وديترويت ومثّلت لبنان في كل مدن العالم.

اسمها الحقيقي ماريا كاريدياس. ولدت في الإسكندرية لأب يوناني مولود في مصر وأم نمساوية ايطالية اسمها (آنا ونتر) وكانت  من فنانات الأفلام الصامتة. بدأت الرقص في الرابعة من العمر عندما علّمتها أمها رقصة هنغارية. وفي السادسة اصطحبتها إلى بديعة مصابني. وقفت ناديا خلف الستارة لتشاهد بديعة تتقدم على المسرح ووراءها 12 راقصة. وراحت تقلدها أمام المرآة. كانت المرآة أول أستاذة لي في الرقص تقول ناديا جمال في حوار مطوّل مع الصحافي والروائي جورج شامي، في كتابه “سمك لبن تمر هندي” (2017).

شجعتها بديعة مصابني وأعطتها أول مبلغ هدية وكان عشرة جنيهات مصرية. ونصحتها: “تعلمي على نفسك وشوفي البنات يرقصن وقلديهن”. شاهدت تحية كاريوكا وسامية جمال ترقصان في فرقة بديعة. تفرجت يا سلام وتأملت وتأثرت بحضور تحية الممتلئ على المسرح، ودوران سامية في فضاء المسرح. وكذلك تأثرت بأسلوب نبوية مصطفى المختلف، وشكلت من كل ذلك أسلوب ناديا جمال. ذات مرة قالت تحية كاريوكا عنها: “هناك راقصة واحدة هي ناديا جمال والاخريات خادمات”. وكانت تتقصّد في زياراتها إلى لبنان مشاهدة حفلات ناديا جمال.

 

في التاسعة من عمرها ظهرت في فيلم استعراضي “أفراح” مع نور الهدى وليلى فوزي. ومذاك بدأت تلتمس الرقص الشرقي التعبيري. أنار والدها الطريق الصحيح والصعب والمتعب لها عبر تعلم الرقص والموسيقى والتمثيل. كان عام 1953 نقطة تحول في حياتها فقد خرجت من مصر الثورة إلى لبنان الحرية والانفتاح وعملت في ملهى طانيوس بحمدون وكانت تقدم رقصاً غربياً. ذات ليلة غابت الراقصة الشرقية فحلّت مكانها وكان طانيوس حاضراً فزاد أجرها ونقلها إلى طانيوس عاليه: “أنت ترقصي ومحمد سلمان يغني لك”. 

في عاليه صودف وجود الفنان فريد الأطرش وعندما عرف أنها من مصر سألها من أطلق عليها اسم ناديا جمال؟ أجابت: “طانيوس الشمالي”. وأردف فريد الأطرش: “ابقي بهذا الاسم. رقصك جميل وتشبهين سامية جمال. اتصلي بي في مصر وربما نشركك معنا في بعض الأفلام”. عادت من لبنان إلى مصر نجمة تتهافت عليها العروض في هجرة معاكسة مختلفة. نجحت في مصر واشتغلت الغيرة والمنافسة وأطلق عليها لقب “الخواجاية” وأجنبية ترقص رقصاً كلاسيكياً.

عادت عام 1959 إلى لبنان وحازت الجنسية اللبنانية عام 1960 وصارت تمثل لبنان في المهرجانات العالمية. بعد عودتها إلى لبنان راحت تعد برامجها بدقة واتقان وتصمم رقصاتها بحرفية عالية معتمدة على معيار الذوق اللبناني فإذا نجحت هنا نقلتها إلى الغرب. ولبثت تردد “لبنان ملهمي ومختبري”. 

 

قدمت لسنة في اوتيل الفينيسيا استعراضاً راقصاً هنأها عليه الرئيس كميل شمعون والرئيس شارل حلو وأثار اعجاب السفراء الأجانب في لبنان.

أول فرصة للعمل في مسرح استعراضي كانت مع روميو لحود عام 1964 والفكرة “فولكلور لبناني مع ناديا جمال”. فقد طلبت لجنة مهرجانات بعلبك من روميو لحود تقديم استعراض غنائي مع ناديا جمال في إطار الليالي اللبنانية. وكانت لوحات بدوية – تراثية وألف ليلة وليلة.

مع روميو لحود انقلبت المعادلة “المغنون في الصف الثاني والصدارة للرقص”. صباح تغني وحدها، والتابلوهات الراقصة لوحدها، والنجاح مذهلاً. بعد ثلاث سنوات قدمت في مهرجانات بعلبك “القلعة” مسرحية غنائية مع صباح، والصداقة مع صباح موصولة من أيام مصر والأفلام المشتركة وروح عمل الفريق وميزة الانفتاح”.

حضر الاخوان رحباني مع المخرج المصري هنري بركات العرض. قال لها عاصي رحباني: “حضرنا لنشاهد فشلك لكن رقصك لا يقل عن مستوى أعمدة بعلبك”. هذه الكلمة أدمعتها ورفعت معنوياتها إلى السماء. بعد بعلبك كان مهرجان الارز مع جوزف عازار، وفي جبيل واهدن “الوهم”. وفي شتورة والباروك وطرابلس وعجلتون وعنايا والبترون. وإذا الرقص الشرقي مع ناديا جمال “سيد المهرجانات”.

 

أرسل في طلبها المجلس الوطني للسياحة ودعاها إلى السفر في مدن العالم لتقدم الرقص الشرقي كفنّ لبناني وبقيت لأربع سنوات تطير من بلد إلى بلد. أسست مدرسة لتعليم الرقص الشرقي، وكانت تشدد أن الرقص ليس باليه ولا هزّ بطن. تعبت لتثبت أن الرقص الشرقي رقص حريم ونساء الحريم معززات مكرمات في القصور ولسن شحاذات. وإن الرقص الشرقي هو رقص تراثي ولم يكن منذ أيام الامويين والعباسيين غير فن راقٍ يقدم للملوك والامراء والخلفاء وضيوفهم. يقدم كتعبير كمفهوم ولغة ليست بحاجة إلى ترجمان. الرقص احساس جواني والحقّ هو الإحساس. في المزمور يقال: “سجّوه بالدف والرقص”.

وفي العام 1975 وأثناء وجودها في نيويورك أسست مدرسة للرقص بدأت بمائتي تلميذة وفي 1978 سبعماية تلميذة وبلغ في العام 1986 أربعة آلاف تلميذة. ثم في لوس انجلوس وسان فرنسيسكو وديترويت. مدارس تعلم تكنيك ناديا جمال في الرقص الشرقي. وهمّها إقامة الفرق بين الرقص الشرقي الحقيقي وما يقدم بإسمه. ترسيخ الرقص الشرقي كثقافة مثل الرقص الغربي والكلاسيكي واللاتيني وغيره.

وصلت إلى اوبرا فيينا في إطار مهرجان الرقص العالمي مرتين في العام 1982 و1984 ومدّد عرضها لأربعة أيام وحازت نجاحاً وتهنئة من مدير الاوبرا وطلب إليها تدريب بنات الاوبرا على الرقص الشرقي. كتبت الصحف عنها بعد المهرجانات “ناديا جمال راقصة من لبنان: شعب يريد أن يعيش وسيبقى حياً”. كما قدمت عام 1984 في الأبي كلوب “استعراض ناديا جمال” وقد صورها التلفزيون النمساوي مع مشاهد من الحرب اللبنانية. اذكر إني حضرت احد عروضها ولا أزال حتى اليوم استعيد الاصداء كمن يغرف من ذكرى مستعذبة. وكان لديها طقوس فهي لا تشترك سوى في حفلة واحدة وفي مكان واحد. وإذا صعدت إلى المسرح فكأنها في عالم آخر، عالم الحلم. وإذا جرب أحد دسّ النقوط برمي المال تغادر المسرح فوراً. ولطالما كانت ناديا جمال من الجيل المخضرم فقد رقصت مع تحية كاريوكا وسامية جمال في فرقة مصابني وتألقت مع جيل نجوى فؤاد وسهير زكي. قالت غير مرة “نعم هناك أزمة في الرقص الشرقي، في الفن الشرقي أزمة ناجمة عن عدم وجود بدائل للفنانين الذين يغيبون. وانتقدت الذين يظهرون ويغيبون مستشهدة بقول محمد عبد الوهاب: “هؤلاء زي النكتة لا تسمع إلا مرة واحدة”.

 

اشتركت ناديا جمال في افلام عديدة في مصر ولبنان رقصاً وتمثيلاً. نذكر منها: طريق السعادة (1953)، رسالة غرام (1954) وعهد الهدى (1955)، قلبي يهواك، زنوبة (1956) وأفراح الشباب (1964)، ليالي الشرق (1965)، غارو (1965)، بيروت صفر 1 (1966)، موال (1966)، ايدك عن مراتي (1968)، من الخاطئ (1970)، القدر (1972)، ومسك وعنبر (1973). كما شاركت في الخمسينات في بعض الأفلام الهندية مع النجم الهندي شامي كابور وقد ربطتهما صداقة وإعجاب. 

تزوجت ثلاث مرات والخيار: الفن أم الزوج؟ ومن أزواجها شفيق هاشم والفنان منير معاصري وكانت تحب أن ترزق بولد، ولم.

“تلاميذي هم اولادي وأرجوهم المحافظة على رفعة هذا الفن”، تقول.

في آخر الأيام انكبّت على كتاب يروي سيرة حياتها وصورها وتاريخ الفن الشرقي كفن تعبيري. وهذا الكتاب للأسف لم يرَ النور. وأتمنى أن يكشف ويظهر ويُمسح الغبار عنه ويرى النور.

 

أصيبت في نهاية الثمانينات بمرض السرطان ولبثت تتعالج في بيروت وتذهب من شقتها المتواضعة في الطابق الأرضي في الحازمية إلى المستشفى، حتى وافاها الاجل عن عمر 53 عاماً أغدقته فناً وابداعاً. كتب المطران جورج خضر عنها في الصفحة الأولى من “النهار” يوم وفاتها: “ذهبت مع إيقاع الكون إلى ذاك الإيقاع السماوي. تنسكت لصرامة الفن طلباً للمعرفة… وقالت إننا في الإيقاع نرسم خطوطاً إذا حملت تكون لنا موعداً مع المجد. عالم الرقص هو حلم الظفر بالمختوم. وناديا جمال ظفرت”.

وبعد أي سر في ناديا جمال؟ الحب، الشغف ورهبة احترام الفن، احترام الرقص باعتباره أول وآخر ما يملك الجسد ليهبه إلى الروح.

بعد 30 عاماً على غيابها، تكاد صورة الذكرى لا تقف على ملموس يذكّر بها أو بالدور أو استلهاماً من حياتها، أو إطلاق اسمها على معهد فني أو مسرح أو شارع. ولكنه بلد قال عنه أحمد شوقي “ينسى فيه كل شيء بعد حين”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *