بين الكيد وعداوة الكار
ماجد الدرويش
كنت أقرأ في كتاب جميل جدا، يعتبر سجلا مهما للحياة العلمية في مطلع القرن العشرين في طرابلس، وهو كتاب (نثر اللآلي في ترجمة أبي المعالي، علامة الفيحاء ورئيس العلماء، الشيخ عبد الكريم عويضة)، بقلم تلميذه وولده الروحي الدكتور الشهيد صبحي الصالح رحمهما الله تعالى، يترجم فيه لشيخه. والذي طبع عام ١٩٥٦.
ومع أن الكتاب حفل بذكر علماء طرابلس الفخام ورجالاتها في تلك الأيام، إلا أن القارئ لن يعجزه التنبه إلى الكيد الذي كان يلاقيه العلماء الكبار من مشايخ آخرين دونهم في المرتبة، لكنهم أقرب إلى سلطان الوقت.
فمن ذلك ما يذكره الشهيد الصالح رحمه الله عن (المدرسة الوطنية) التي أسسها العلامة الكبير الشيخ حسين الجسر، بأنها أغلقت أبوابها نهائيا سنة ١٢٩٩ ه، ١٨٨٢ م، والسبب (تحاسد العلماء).

يقول الشهيد الصالح رحمه الله تعال: «وكان السبب في إغلاقها أن بعض علماء زمانه حسدوا سعي الشيخ حسين الجسر، فوضعوا في طريقه الأشواك، واعترضوا سبيله بالعقبات، ومكروا به لدى أولياء الأمر، فأيقن بأن جهاده في سبيل أمته ووطنه لم يلق نجاحا«.
فيا سبحان الله، هل هؤلاء علماء؟ وهل تعقلوا وحي السماء؟
البعض على استعداد لتجهيل بلد، تغليبا لخلق الأنانية والحسد، فنعوذ بالله الواحد الأحد، من شر حاسد إذا حسد.
ومما ذكره رحمه الله أن شيخه العلامة عبد الكريم عويضة، أنشأ في أيام دراسته، سنة ١٣٠٧ ه، ١٩٠٩م مجلة أسبوعية تسمى (روضة الآداب)، شجعه على إنشائها شيخه الجسر رحمه الله تعالى، كانت تهتم غالبا بتلخيص الدروس الأسبوعية على طريقة السؤال والجواب، تسهيلا للمذاكرة، مع بعض التوجيهات الأدبية والعلمية بأسلوب بياني رفيع، حرصا من الشيخ على زملائه الطلبة أن يتحلوا بمكارم الأخلاق.

وفي إحدى المرات لمح عند بعض زملائه خروجا عن طور الاعتدال بسلوكهم سبيلَيْ الإفراط والتفريط، فأنشأ مقالة أدبية ضمنها نصائح غالية، وإرشادات سلوكية، ثم نشرها في هذه المجلة الأسبوعية.
يقول الشهيد الصالح رحمه الله: «وما كانت هذه المقالة تروق لبعض زملائه الطلبة ولا لتحلو في أعينهم، فأكمنوا في أنفسهم ما الله مبديه، ولم يعلموا أن الأيام ستكشف ما تضمره قلوبهم وتخفيه«.
قال: «أرسل بعضهم إلى الوالي كتابا يذكر فيه أنه قد أُنشئت في طرابلس، بدون مسوغ قانوني، مجلة تقارن بين الأديان وتبحث خاصة في الديانة المسيحية، وأن موضوعا خطيرا سينشر فيها في العدد القادم تحت عنوان (عقيدة التثليث) وأن صدور مثل هذا الموضوع يثير الفتن ويريق الدماء، ولقد تبين فيما بعد أن مرسل ذلك الكتاب كان أحد الملازمين لشيخنا، وكان في ذلك اليوم نفسه يأكل (الكبة) في ضيافته«.
وطبعا المجلة لم تنشر شيئا من هذا المضمون، ولم يكن ذلك في نية منشئها الميمون، لكن الفرمان بمنع صدور المجلة نُشِر… وفاز (آكل الكبة) بمنعه الماعون..