لبنان عبر تاريخه
نظم مجلس إدارة النادي اللبناني المكسيك والجامعة اللبنانية الثقافية في العالم (wlcu)، ندوة عبر zoom بعنوان “لبنان عبر تاريخه”، لمناسبة المئوية الأولى للبنان الكبير 1920-2020 بتنسيق من نبيه شرتوني وتقديم كل من جورج الخوري وخليل الخوري، وشارك فيها راعي أبرشية مار مارون – كندا المطران بول مروان تابت بعنوان “البطريرك الياس الحويك أب في كنيسة ووطن” والمفتي الدكتورالشيخ مالك الشعار في موضوع “المئوية الأولى لقيامة لبنان”.
واستهل المفتي الشعار كلمته بشكر “كل من أتاح لي فرصة الحديث إليكم والحديث معكم واسمحوا لي ثانية أن أخص بالتحية والشكر سائرالعاملين في إطارالجامعة اللبنانية الثقافية في العالم التي تعمل لتأكيد التواصل بين الاغتراب وأهل الداخل، وإمداد لبنان بعصب جديد وقوي يحفظ لبنان الوطن، كما يحفظ أبناءه اللبنانيين ويؤكد ولاءهم للوطن مع الدعم وتصويب المسيرة”.
وقال: “عندما يكون الحديث عن لبنان الكبير وقيامة لبنان ومرور المئوية الأولى على قيامته وتكوينه وولادته، تنصرف الأذهان ويستحضر المؤرخون صاحب الغبطة الكبير البطريريك الحويك الذي أبى قيامة لبنان وتشكيله دون السنة والدروز وطرابلس والشمال، وهو الذي كان يمثل يومها روح المسيحية في تعايشها مع الآخرين أيا كان انتماؤهم الديني أو المناطقي والمذهبي، وعندما يكون الحديث عن لبنان الكبير لا ترتسم صورته وحضوره من خلال مساحته الجغرافية وحدوده الأرضية والترابية، وإنما من خلال دوره الريادي وكونه يمثل وطنا ورسالة، وهذا بحد ذاته يعطي لهذه الصفة لبنان الكبير دقة المضمون والمعنى والبعد والأفق”.
وتساءل: “لبنان الكبير، كبير بماذا؟ أبهذه الرقعة الجغرافية والمساحة المحددة بعشرة آلاف وأربعمائة واثنين وخمسين كلم2 (10452 كلم2) لا، طبعا لا،أم بما يحده من الشرق والشمال سوريا، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط، ومن الجنوب فلسطين التي أضحت محتلة وأسيرة ومضطهدة؟ كذلك لا، رغم ما لأهمية سوريا من حيث كونها تحتضن دمشق عاصمة الأمويين ودورها الثقافي والحضاري، بل وما تكتنزه من حضارات تجعلها إحدى أهم دول العالم. ورغم ما لفلسطين من أهمية فهي مهد المسيح عليه السلام وفيها بيت المقدس الأرض المباركة والتي تحتضن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين”.
وتابع الشعار: “إذا رغم ما لهذه الحدود من قيمة وأهمية، إلا أن صفة الرسالة هي التي تجعل لبنان كبيرا بذاته وشعبه وحضارته وعمقه التاريخي، ثم دوره رغم ما تكسبه الحدود الجغرافية من أهمية مطلقة، من هنا يتحدد لنا مضمون الحديث والدراسة أو المحاضرة مع النداء والرجا الذي نعتبره إطارا جامعا لنا يضمنا ويحتضننا. لبنان الكبير والمؤية الأولى تكمن قيمتها في أنه وطن ورسالة، وهذا الذي أعلنه قداسة البابا الحبر الأعظم رأس الكاثوليكية، فغبطة البطريرك حويك وقداسة البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية كلاهما يمثل المرجعية الأولى عند المسيحيين، والتي تلزم عموم المسيحيين بالحفاظ عليها والحؤول دون تبددها أو تقزيمها، فضلا عن زوالها أو استبدالها بغيرها”؟.
وأردف: “بعبارة أوضح ينبغي على المسيحيين أن يشكلوا سدا منيعا لمقاومة مطلق فكرة تقسيمية كالفدرالية والكونتونات، أو قيام دويلات طائفية أو مذهبية، وبالتالي اعتبار كل مشروع أو تحالف سياسي يوصل إلى هذه المحرمات، محرم وممنوع لأنه ضرب وطمس لتوجه أهم وأبرز مرجعيات الكنيسة في العالم، ففكرة لبنان الكبير لم تكن مزاجا عابرا وإنما فكر وإدراك وعقل وسياسة استراتيجية تتجاوز كل الاعتبارات المناطقية إلى الحضور المسيحي الدائم في الشرق الأوسط ووسط الثقل الإسلامي السني الذي يتمثل بما يزيد على عشرين دولة إسلامية. وإذا علمنا أن لبنان في عهد المتصرفية كان يغلب عليه اللون الواحد والطائفة الواحدة عنيت المسيحية وبعضا من الدروز فضلا عن أن المساحة المحدودة لم تكن تبلغ الثلاثة آلاف وخمسماية كلم2 تقريبا يومها، كما أن عدد السكان كان في حدود الأربعماية وعشرة آلاف نسمة وليس غير، ندرك بعدها نظرة البطريرك حويك لحرصه على إعلان لبنان الكبير حيث اكتسب لبنان مساحة أكبر تربو على الضعفين وعددا أكثر من ذي قبل، فارتفع إلى حدود الستماية وثلاثين ألفا، ولا يغيب عن البال اكتساب لبنان لبعض المناطق الزراعية المهمة في البقاع وعكار وما ربحه من موانئ ومرافئ كبرى في بيروت وصيدا وطرابلس هذا غير الأماكن الأثرية في صيدا وصور وبعلبك وطرابلس، وانتقال مركز الثقل السكاني إلى الساحل بعد أن أصبحت بيروت عاصمة لبنان الكبير”.
وتناول الشعار أهمية ضم الأراضي التي سلخت عن لبنان في عهد المتصرفية لأقسام من ولاية بيروت الأقضية الأربعة حاصبيا، راشيا، بعلبك والبقاع. وقال: “بقيامة لبنان الكبير تحقق قيام توازن سكاني جديد يقوم على التعاون المسيحي الإسلامي بعد أن كان التوازن مارونيا درزيا في عهد المتصرفية، ولأنه وبعد هذه المقدمة وهذه العجالة أعود إلى لب الحديث والموضوع لبيان المضمون والحقيقة وأن دولة لبنان الكبير لا تتحقق قيامته ولا يكون كبيرا دون هاتين الصفتين لبنان وطن ورسالة”.
أضاف: “ربما يكون الجواب عن التساؤل الأول سهلا وسريعا وبديهيا من أن الوطن هو الذي خلقت فيه وولدت وترعرت، وهو الذي عشت على أرضه وتحت سمائه وأكلت من خيراته وتنسمت هواءه وشربت من مائه، وهذا بالبداهة صحيح ولا يخضع لنزاع ولا نقاش. لكن الوطن الذي نريد وحتى يكون محضنا وموئلا نعطيه ونفديه وتؤسس فيه لمستقبلك ومستقبل أولادك وذريتك هو الوطن الذي يعطيك حرية الحياة وحرية التفكير والتعبير والعمل، كما حرية المعتقد والإنتاج، هو الوطن الذي يحقق لك طموحاتك فضلا عن ضرورياتك وحاجياتك وكمالاتك”.
وتابع: “هو الوطن الذي لا تخشى فيه ظلما ولا هضما، هو الوطن الذي يسوده العدل فلا يظلم فيه فقير ولا ضعيف ولا يتيم أو محتاج وإنما يسوده العدل دون سواه،الوطن هو الذي تشعر فيه بالمساواة والمواطنة مع الآخر أو مع كل أحد فلا يعلو عليك أحد لمذهبه أو حزبه أو منطقته أو ماله ونسبه. نعم الوطن هو الذي تسوده الحرية بكل أنواعها والحرية الدينية أولها (لا إكراه في الدين) كما تسوده العدالة والمواساة ليشعر الناس كل الناس فيه بالأمن على حياتهم وأموالهم وأعراضهم، ويتحقق فيه تباعا لذلك الاستقرار المجتمعي والنفسي والجماعي كما الفردي. هذا الوطن هو الذي يضع نصب عينيه استيعاب جميع أبنائه وشعبه وتأمين فرص العمل لهم، إما في إطار الخدمة العامة، وإما في إطار الخدمات الأخرى مثل الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة وسائر مقومات الحياة”.
أضاف: “وكأن الوطن لا تقوم قائمته إلا على سياسات متعددة ومتنوعة، فالسياسة ليست قاصرة على إدارة البلاد وعلاقتها مع بقية دول العالم، وإنما السياسة ينبغي أن تشمل إدارات الدولة كلها ولا تقتصر هذه السياسات بالوعود واللجان وإنما بالدراسات واستيعاب الخيرات من الداخل أو من الخارج، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها.الوطن هو الذي تحكمه وتسوده العدالة دون خداع أو محاباة أو مواربة أيا كان رأسه ومن أي طائفة أو مذهب كان”.
وتساءل: “ما قيمة أن يكون الحاكم مسلما لا يعرف غير المسلمين ولا يشملهم عدله وعطاؤه، وعند معاشر المسلمين نبحث عن العدل من مطلق مكان أو دولة فعندما هاجر بعض المسلمين من مكة وقصدوا الحبشة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحدا. كما أن القول المعتمد عندنا بأمن الله ينصر الدولة العادلة ولو لم تكن مسلمة ولا ينصر الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة، ومن هنا فإنه لا مانع عندنا من المطالبة بالدولة المدنية التي يتوالى على حكمها أهل العدل من أي طائفة كانوا أو من أي مذهب ودين”.
وأردف قائلا: “الدولة المدنية عندنا وفي مفهومنا هي التي يتساوى فيها أبناء الوطن في الحقوق والواجبات وهي التي لا يحكمها دين ولا طائفة ولا مذهب ولا تتنكر لدين ولا طائفة ولا مذهب، فلكل دينه ( لكم دينكم ولي ديني) كما قال الله تعالى في القرآن الكريم، ولكل معتقده ومن حق كل أحد أن يمارس شعائره وأن يقوم بواجباته الدينية دون أن يمس أحدا ودون أن يمسه أحد. وثمة أمر آخر يحفظ مسيرة الوطن ولحمته بل أكثر من ذلك ويحفظ كيانه وقيامته عنيت به الحياد الإيجابي أو الناشط كما أطلق عليه بطريرك المئوية الثانية مار بشارة الراعي”.
وأكد أن “لبنان هذه الدولة أو هذا الوطن الذي من لب رسالته الانفتاح على العالم كل العالم لا يدوم كيانه ولا تستمر مسيرته ما لم يكن محايدا والحياد الذي نعنيه في حده الأدنى هو ألا يتدخل في حروب الآخرين ولا في التحالفات المصيرية التي تخرجه عن محيطه ورسالته ولعل دستور الطائف الذي اتفق عليه اللبناينون والذي جعلهم طائفة واحدة اسمها لبنان هو خير ما يعود إليه اللبنانيون لضبط مطلق علاقة داخلية أو خارجية ولعل هذا هو شعار البطريرك حويك الذي قال أنا بطريرك الموارنة عائلتي لبنان”.
وتابع: “وكل مجتمع تصادر منه الحريات وخاصة حرية المعتقد أو يغيب عن العدل في الحقوق والواجبات والقضاء والمواطنة، أو لا يشعر فيه كل مواطن بالمساواة مع الآخرين هي مجتمعات فاشلة وظالمة ولو اتخذت لنفسها تسمية إسلامية أو دينية أو غير ذلك، الأوطان والمجتمعات لا يكتب لها وجود وحياة وأمن أمان واستقرار إلا إذا كانت دولة الإنسان بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، ما تقدم هو لبناء الوطن والإنسان، أما لبناء الرسالة فهو المضمون الأساس الذي يجعل منه حجر الأساس للسلم العالمي”.
وقال: “التعايش مع الآخرين هو السلم والأمان معهم والاطمئنان والحرص عليهم، وعندما يكون الخطاب أو الحديث مع اللبنانيين يصح لي أن أقول صفة أخرى مع السلم والأمان والاطمئنان والحرص المحبة كذلك، لبنان وطن ورسالة، وليس مجرد وطن، كلمة قالها رأس الكنيسة قداسة البابا الذي عبر بذلك عن قيم الإسلام والمسيحية معا، فالكنيسة أو المسيحية التي تحتضن المحبة، يقابلها الإسلام الذي هو دين الرحمة والعدل والمساواة، وهو دين الإنسانية جمعاء (وما أرسلناك إلا رحمة للعامين)، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يكون السلام والتعايش رسالة وطننا الحبيب لبنان. والسلم الأهلي يتطلب من أبناء المجتمع وإن اختلفت مذاهبهم وطوائفهم وثقافاتهم أن يتلاقوا ثم يتعارفوا ثم يتآلفوا ثم يتعاونوا ثم يجعلوا من أنفسهم عائلة واحدة إسمها لبنان، لكل دينه ولكل معتقده ولكل مذهبه ولكنهم جميعا متساوون في الحقوق والواجبات الإنسانية والمدنية، وكلهم أبناء آدم وآدم من تراب”.
وختم الشعار: “الواقع في لبنان غير الذي ذكرناه، وغير الذي نتمناه وغير الذي اؤتمنا عليه، اللبنانيون لم يعرفوا قيمة بلدهم ولم يحافظوا على دوره ورسالته، اللبنانيون وللأسف الشديد تحولت خلافاتهم إلى قتال وحروب، سفكت دماء ودمرت مدن وعواصم وبلدات وقرى، وهجرت عائلات واعتدي على أطفال ونساء وشيوخ ومسنين، ولا أريد ان أذكر تهديم المساجد ولا الكنائس، لأن الاعتداء على الإنسان أشد وأخطر من الاعتداء على دور العبادة. اللبنانيون مارسوا دور التعصب البغيض واستعادوا دور الجاهلية الأولى. اللبنانيون في كل ما فعلوه لم يكونوا مسلمين حقا ولا مسيحيين حقا، لأن الإسلام والمسيحية كلاهما لا يأمر بالقتل ولا بالإرهاب ولا بالاعتداء ولا بالتهجير ولا بالكراهية، ولو عرف المسيحيون دينهم حقا لاطمأن المسلمون ولو عرف المسلمون دينهم حقا لاطمأن المسيحيون، لذلك فإني أدعو الجميع لمعرفة دينهم والتزام أوامره وأحكامه وتشريعاته. ينبغي على المسلمين أن يعرفوا المسيحيين على دينهم من خلال سلوكهم وتعاملهم ومحبتهم تسامحهم عند الخطأ مع بعضهم، كما على المسيحيين أن يعرفوا المسلمين على دينهم من خلال سلكوكهم وتعاملهم وأخلاقهم ومحبتهم وتسامحهم عند الخطأ مع بعضهم”.
تابت
وتحدث المطران تابت فقال: “البطريرك الياس الحويك، هذا الرجل العظيم الذي شغل مكانة كبيرة ولعب دوره الديني والوطني، فترك الأثر الباقي في بقعة جغرافية اسمها لبنان وعمل على ترسيخ كيان دولة فيه، هو راع لكنيسة ومدبر لعائلة وقائد لأمة، باختصار هو أب في كنيسة ووطن، من هنا، تأتي هذه المداخلة في إطار إحياء مئوية لبنان الكبير، وقد كان للبطريرك الحويك الباع الواسع في انجازه، وتتسم أهمية هذا اللقاء بالمشاركة مع سماحة المفتي مالك الشعار، بإلقاء الضوء على دور هذا البطريرك المتوقد في هذا الانجا”ز.
وتابع: “الشكر كل الشكر للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، الراعية لهذا اللقاء، كما الشكر كل الشكر، للقيمين عليها وسوف أركز في هذه المداخلة على العناوين التالية: لمحة عن حياة البطريرك الحويك، أهم إنجازاته، مزاياه الروحية والانسانية، مزاياه الوطنية، قراءة تحليلية لرؤيته الوطنية وأهمية تموضعه الديني والسياسي”.
وقال: “كانون الأول 1843: ولد الياس الحويك في حلتا، البترون، كان والده كاهنا، هو البكر ل7 أولاد، تابع علومه في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير وأتقن اللغات الفرنسية والايطالية واليونانية الى جانب السريانية والعربية، درس في روما حيث نال الدكتوراه في الفلسفة واللاهوت، 5 حزيران 1870: السيامة الكهنوتية، 14 كانون الاول 1889: السيامة الأسقفية، 6 كانون الثاني 1899: انتخابه الى البطريركية (32 سنة)، 24 كانون الاول 1931: وفاته”.
وتناول أهم إنجازاته وهي تأسيسه مركزا للكنيسة المارونية في باريس (1890)، إحياء المدرسة المارونية في روما (1890)، جدار للبطريركية في القدس (1895)، جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات (1895)، النيابة البطريركية في مصر (1904)، تشييد مزار سيدة لبنان – حريصا (1904 – 1908).
وقال: “هو رجل وقار وهيبة، رجل صدق وكرم وانفتاح. كان ذو رؤية نبوية بعيدة المدى وشاملة. كان قائدا وراعيا وأبا حاضرا في قلب كنيسته، مصغيا لحاجات شعبه خاصة غير الميسورين والضعفاء، محاربا للأمية والجهل والمرض والظلم، مناضلا من أجل بناء الانسان والعائلة والمجتمع على القيم الانجيلية والانسانية والعدالة الاجتماعية والاهتمام بالفقراء والاقل حظا”.
وذكر ما جرى خلال الحرب العالمية الاولى (سنة 1917) حين رهن الحويك ممتلكات الكنيسة للحصول على القمح ومساعدة المحتاجين. لم يتردد أبدا ببيع الذهب والفضة لإطعام الجياع بحسب ما شهد هو بنفسه: “شهدت التواريخ الصادقة بأننا كثيرا ما بعنا الأواني الذهبية والملابس الفاخرة المخصصة لعبادة الله وأنفقنا ثمنها في سبيل مساعدة إخوتنا لاعتقادنا أن الإكرام الذي نؤديه لله في شخص أخيه الفقير المعوز يروقه تعالى كالإكرام الذي يناله بتقادمنا له على المذبح”.
أضاف: “كان البطريرك الحويك رجل استقامة وإقدام، رجل انفتاح ومبادرة، رجل حوار وتفاوض. وكان خلال أسقفيته اليد اليمنى للبطريرك الحاج وسفير الطائفة في الاقطار الاقليمية والخارجية والمحرك الأساس لمشاريع رعوية واجتماعية. كما كان “عراب لبنان الكبير”. وانتدب سنة 1919 من قبل جميع اللبنانيين لتمثيل طوائف لبنان أمام مؤتمر الصلح للمطالبة بالإستقلال، وسعى في مرحلة الإنتذاب الفرنسي إلى حسن تطبيق الإنتداب وعدم تحويله شكلا من أشكال الاستعمار، وضع قانون أساسي موافق للبلاد ولطموحات أبنائها وطوائفها في المضمون والشكل كما في طريقة نصه، شدد على المحافظة على نظام الأحوال الشخصية لأسباب تاريخية، إجتماعية ودينية، وطالب السلطات الفرنسية بعدم التدخل في الشؤون الدينية واحترام الخصوصية اللبنانية وعدم إدخال أفكار أجنبية إلى لبنان لا تتلاءم وواقعه”.
ورأى أن “عهد البطريرك الحويك زخر بالأحداث الوطنية الكبرى. ويمكننا التكلم عن أربع مراحل تاريخية وطنية مر بها عهده إبان مرحلة المتصرفية، ومرحلة الحرب العالمية الأولى، وكلتاهما في ظل الهيمنة العثمانية وتسلطها، وفي كل هذه المراحل تعاطى البطريرك الحويك الشأن الوطني من بابه العالي، وكان أبرز رواد الحركة الوطنية. وكان لديه قناعة بالنسيج اللبناني، فلم يرد ان يجعل من لبنان وطنا انعزاليا للمسيحيين. فعلى هذا الاساس وضع نفسه في حالة المفاوض مع المرجعيات السياسية التركية خلال مرحلة المتصرفية والحرب العالمية الاولى ومع المرجعيات الفرنسية والدولية خلال مرحلة الانتداب ونيل الاستقلال. فاستطاع ان يظهر صورة البطريرك الماروني الذي طائفته لبنان وأنه لكل اللبنانيين، فاستحق لقب مجد لبنان اعطي له”.
وتابع: “أظهر البطريرك الحويك الموارنة على أنهم جزء أساسي من الحل في لبنان والمنطقة وليسوا جزءا من مشكلة، وحدد البطريرك الحويك رؤيته للبنان الكبير انطلاقا من مرتكزات أربعة:الوطن وتربطنا فيه علاقة عاطفية أدبية ووجودية، الطائفة وتعلو كل الطوائف وتحتضن كل الطوائف، المصلحة العامة وتعلو فيه على المصالح الخاصة وعلى علاقات القربى العائلية، يذكر البطريرك في أحد منشوراته بعنوان “محبة الوطن” فيقول: “سلامة الأمة لا تقوم إلا بخدمة المصلحة العامة والاستقلال لا يقوم بشقشقة الكلام وصرير الأقلام”، الحوار والتعايش وإرادة العيش معا هو لبنان الرسالة”.
وأردف: “من جهة أخرى، وتظهيرا لأهمية تموضعه الديني والسياسي، نعود الى ما ذكره الكاتب الصحفي طوني فرنسيس في مقالة بعنوان: “الياس الحويك البطريرك صانع لبنان”، لقد توفرت للبنان، بالبطريرك الحويك، في اللحظة التاريخية المناسبة، قيادة وطنية تمكنت من ترجمة الظروف الملائمة في تحقيق حلم الدولة المستقلة”.
وقال: “لم يعش البطريرك إلياس الحويك بعيدا عن مجريات الأحداث العاصفة مطلع القرن العشرين، فهو البطريرك ال72 لكنيسة عمرها 1700 سنة. أتاح له وجوده في روما بناء علاقات متينة مع القيادات الفرنسية أفادته لاحقا في حملته من أجل الاستقلال، وإن التجربة القاسية والحاسمة التي عاشها الحويك خلال الحرب العالمية الأولى هي التي دفعته إلى التركيز على إيجاد وطن نهائي مستقل للبنانيين بمختلف طوائفهم إذ كان العثمانيون قد ألغوا خلال تلك الحرب نظام المتصرفية في جبل لبنان وقضوا على الاستقلال النسبي الذي كان يعيشه، ووجد البطريرك نفسه في مواجهة مباشرة مع الحاكم التركي، آنذاك، جمال باشا، عاملا على إغاثة مئات الألوف من أبناء الجبل الذين أصابتهم المجاعة”.
أضاف: “قاوم البطريرك محاولات الأتراك تطويعه وبالتالي الانقضاض على ما يمثل من موقع كنسي، واستند الحويك إلى إرث وتجارب سابقة تبلورت في زمن المتصرفية في أعمال وكتابات رواد النهضة العربية من اللبنانيين. وعرف كيف يستمد الدعم والعزيمة باحتضانه كأب للحراك الشعبي والقيادي للتأثير والمساهمة في قرار إرسال الوفود الى مؤتمر الصلح حيث شكل البطريرك الوفد الثاني في تموز 1919 الذي شدد خلال لقائه رئيس الدولة الفرنسية آنذاك بوانكاريه ورئيس الوزراء كليمنصو على حق لبنان في توسيع حدوده متمسكا بالمطالب الآتية:الاعتراف باستقلال لبنان، إعادة لبنان الى حدوده الطبيعية والتاريخية بإعادة الأراضي التي سلختها السلطنة، تطبيق العقوبات بحق مرتكبي الفظائع والجرائم خلال الحرب الكونية (ألمانيا وتركيا)، والقبول بالانتداب الفرنسي على لبنان شرط أن يكون مقدمة لاستقلاله”.
وختم تابت: “توجت مساعي البطريرك الحويك رغبة أبناء لبنان في استرجاع بلدهم نهائيا. لم يرد أن يكون لبنان لا ملحقا ولا ملتحقا إذ دعا إلى علاقة احترام وود مع العرب وعلى الصعيد الاقليمي والدولي. واقترح نظاما جمهوريا انتخابيا يحفظ حقوق الأقليات. (fuchsfineguns.com) ونجح الحويك الذي “مجد لبنان أعطي له” في مسعاه وحضر وهو في السابعة والسبعين من عمره إعلان دولة دولة لبنان الكبير الذي سيصبح الجمهورية اللبنانية بعد ست سنوات بحدودها الراهنة. وبقي الحويك طوال سني عمره المتبقية، توفي في 1931، متابعا بحرص إنجاح الوطن الذي كان أبرز صانعيه”.