كلير خوري…مُحتَرِفةٌ بِخُشوع
د. جورج شبلي
في عالَمِ الموسيقى والمَغنى، أُصولٌ وقواعدُ معقَّدةٌ تشكِّلُ، لدى الكثيرينَ من مُنتَحِلي هذه الصَّنعةِ، مُعضِلةً تَفضحُهم، عندما يقعون في مُنزلَقاتِها. والأَقلّونَ مِمَّن تَحسَّسوا موجاتِ المواهب، يُنجِزونَ خَرقاً أَدائيّاً في مَساسِهم بالموسيقى الحقيقية، يقتربُ من شكلِ الصلاةِ، بِحسبِ الطّقوسِ التي التَزَمَتها الأَجيال.
كلير خوري استهلَّت ندواتِها بالتَّرتيل، وهو أَكمَلُ الأمثلةِ التي تجمعُ بين الخُشوعِ والإِجادة، فلم تَمِلْ عن أبجديّاتِهِ، وأَتقَنَت صُنوفَه حتى بَوَّأَها صَدارتَه. والتَّرتيلُ اختبارٌ صَعبٌ يَعصى على العاديّين، لذا، فالذي يُنِسِّبُهُ التّرتيلُ إليه، يكونُ مِمَّن اكتمَلَت، عندَه، مَحاسِنُ الصّوت والمَهارة، وأصبحَ قادراً على تأديةِ طُبوعِ الغناءِ جميعِها، وهذه حالُ كلير خوري الآتيةِ من هياكلِ العبادةِ، حيثُ البخّورُ غناء.
لقد استمعتُ الى كلير، في المقطوعةِ التي خصَّت بها بيروت، من كلمات الشّاعر قزحيا ساسين، وقد تأَصَّلَ في صوتِها النّشاطُ الموسيقيُّ بِقَوالِبِه، فتأكّدتُ من أنّ بينَ كلير والنَّغَم عِشرةً حميمةً وأَمكنةَ أنس. لقد ساقَت هذه الفَتِيّةُ في الإِنشاد، مساحةَ غنائِها ببراعةٍ ورشاقةٍ، فوفَّتِ الجَرْسَ سلاستَه، والنّبراتِ مواقعَها، والجُمَلَ أجزاءَها، كلُّ ذلك في إِطارٍ صوتيٍّ يُشبِعُ النَّغَمَ بِعُرَبٍ تُبرزُ جَماليّةَ اللَّحنِ المُؤَدّى، ويرتفعُ بالغناءِ، بما يَفيضُ من إِحساس، الى مَصافِ الإِتقان.
لقد استقَلَّت كلير خوري مَتنَ الأُصول، وهي تَذكرةُ الطَّوافِ فوقَ تُحَفِ الغِناء، بعيداً عن التَصَنُّع، فالمحتوى الجَماليُّ والإِبداعيُّ في تفاصيلِ صوتِها، يبرِّرُ بُلوغَها مكانةً صريحةً في الفنّ، هي وحدَها مرجعيّةُ القدرةِ والتفوّق. إنّ النّوعَ الذي أدَّتهُ، في قصيدةِ بيروت، أكثرُ ما يُعتَمَدُ فيه على الصَّوت، وهذا ما حَمَّلَ كلير مسؤوليةَ أن تحملَ صوتَها في يَدَيها، ولكن مُرتاحةً لِذَوقٍ موفَّق، وثِقةٍ على غيرِ قَلَقٍ من موهبة.
اللَّحنُ، مع كلير، وهو من إِبداعاتِها، ما كان، معها، تزيينيّاً، لذلك، لم يشكّلْ لها سؤالاً شائكاً، فلم يجمدْ في جملة، بل اتّسعَ لكلِّ ما يمكنُ أن يَحتويَه إحساس. ولِأَنْ لا يستحيلُ أمرٌ على رِبيبِ الموهبة، نقفُ، مع كلير، أمامَ العلاقةِ الكيانيّةِ بين الشّخصِ وموسيقاه، حيثُ الملعبُ الإِبداعيُّ أَرحَبُ لِمَنْ أحاسيسُهُ من نار.
لقد منحَت كلير، في مقطوعةِ بيروت، الموسيقى شيئاً من البلاغة، في تَدريبِها الصّوت على صُحبةِ الشّكلِ واللَّون، وعلى نَسجِ صورةٍ بِخيوطٍ من صَمت، على غيرِ ما نألَف. وبالرَّغمِ من كَونِ المقطوعةِ صرخةً قريبةً من الدّمعة، مُغَمَّسةً باللَّحنِ الأَحمر، إلّا أنّها توثيقٌ بين كلير الإنسانِ ونوازِعِها، كلير التي وضعَت أصابعَها في قلبِها، لتمتدَّ نبرةُ الحزنِ والمحبّةِ الى أسطورةِ بيروت، تلك الملحمةِ التي جَهدَت كلير لبَعثِها من تَشَقُّقاتِ الزَّمن، بالنَّغمِ، والإيحاءِ، والجَمال، بعدَ أن خيطَت، قَسراً، الى مساحةِ الموت.
كلير الهادئةُ النَّفسِ والنَّفَس، اعتلَتِ المَراكبَ الثِّقالَ في صِيَغةِ الغناء، وهي بعدُ فَتِيَّة، فأدَّت كَمِثلِ روائعِ الكِبارِ بإِعزازِ المَغنى، في رقّةٍ وجزالةٍ وجَماليّةٍ مُحَلّاةٍ بالأُصولِ المُتقَنَة، حتى لَنَثِقَ، في فنِّ الأداء الموسيقيّ، بأنّ هذه الأمانةَ هي في عُهدةِ ساحرة.
(Xanax)