سجلوا عندكم

“لي غيمة” لشربل داغر… احتفالية عابقة بالطقوس والألغاز والبخور

Views: 995

أنطوان يزبك

 

لي غيمة…

 

لي غيمة لم أنجح في تتبعها…

فيها وسادتي، عَتَبتي، وطرفُ الطاولة الذي يتجدد فوقه عصير تفاحتي.

فكيف امشي، أو انام، او استرسل في قعدتي، من دونها، وهي حَمَلتني، من دون أن أقوى على جرّها ورائي مثل عربتي الخشبية في صغري، ولا على رفعها مثل نشيدي الأخير…

غيمتي تنساني، وأتفقدها.

لم أفز بها في مسابقة، ولا وقعتُ عليها بعد طولِ مراقبةٍ في زاوية عزلتي…

صوتي، إذ يندس، أو يُمسِّد الخفيفَ في تعاليه.

اصطادتْني، من تلقاء نفسها. أودعتني في ثناياها، كما في كتاب أبيض مفتوح.

انبسطتْ حديقة، أو سريرا، لمجرد أنني هرعت إليها بخفةِ فراشةٍ لا تصل إليها.

تُظللني في شتائي، أكثر من صيفي،

وتَكشفني في تمام عريي أمام الشهيةِ، الغامضةِ، التي تمدُّ أصابعها الدقيقة صوب أصابعي، من دون أن تلتقي: هي في منتهى أصابعي، وأنا في منتهى أصابعها. نتقابل من دون أن نتلامس، نتعاشق من دون أن نتجاسد…

غيمتي، سِرّي، رسالتي، دفتري الذي تحت إبطي… أأغوص فيها، أم انطنط، أم أندس في سرير الشهوة التي تلمّنا، تلف؟نا؟

غيمتي لِحافي الذي من هواءٍ ورنينٍ، لا تَمسح عَرَقي إذ يتصبب من جِلدها، ولا عسلَ شفتَيها عندما يتقطر من أغصاني…

لها شفتان، في عاليها وفي واطيها.

لي معها لسانان، في طرف إصبعي، وفي منحنى جلدي.

بلى، هي من ورَّطني، من سحبتْني إلى عليائها الدانية، مثل وصيةٍ مؤجلة، وعيدٍ وثني، وتفاحةِ ما لا ينقضي عصيرُه…

لعلها ابتسمتْ من دون إشارتي، إذ كنتُ مشغولا بها عني…

لم يكن في الوقت متسعٌ لكي أصفف لها كلمات، ولا مقعدا لجلوسي معها. لعلها لم توجه إلي اي كلام، بدليل أنني لم اصل إليها تماما، بل بقيت شاخصا امام مرآتها البيضاء من دون ان اتبين وجهي:

فقط هذه الالتماعة في عينيّ، وهذه القشعريرة التي تمددت في اصابعي، هي ما يُشعرني بأنها أميرتي التي لا تحتاج إلى تاج، ولا إلى مراسيم، لكي اتعبدها من دون تهيب، لكي اذوقها بطمأنينة المتهاوي من دون صخب في وادي نعمتها العالي.

في بريتي، كيف انصعتُ إليها،

وبتُّ صاغرا امامها؟!

في شرودي، في تيهي، كيف اتجمع مصعوقا، مخطوفا، في ذلك الحوار الحميمي من دون كلام!

ما يرقُّ في تناهيه، ويتهادى من دون خلخال، ويلوح من دون مزمار، ما يُبكي من دون دمعته، ويشدّني فيما يبدّدني…

غيمتي، جواز سفري، حيث أنعم بأكثر مما يتيح لي طيران القلة والتعداد.

تمهلي، في نزولي، في احتباس صوتي المترقرق بين وجنتَيها.

كيف لي أن احاسبها، وهي تمسكني بما يطيل مكوثي في المكان عينه، بما يجعل الوهم مغريا، والقيد نفقا!

لم تتصاغر لترفعني براحتها الطرية، بل ارتفعتُ إليها، وطالت ساقاي لتعبرا الشجرة والنهر والماعز وطابتي والبيت والجيران والأعشاب التي قادتني الى الضفة من دون علمها… لكي أنفث الهواء الصاعد من استكانتي، وأواكب من يواكبني، في ذلك الرواق الذي لا يُمسك بحافتيه غيري.

غيمتي الأصلب من كتاب،

الوفيةُ من دون عقد،

التي اسبلت عينيها من دون

إغراء، هي تعرفني، انا لا أعرفها. تومئ من دون إلحاح، وتمضي في طريقها من دون إرشادات.

لهذا لا ينتبه من يظنني قاعدا جنبه، أن لي في غيمتي استعارة تسعني أكثر من قصيدة.

عجينتي، من دون تنور، تتخاطف قصيدتي خبزَها.

شربل داغر

 

 

من أقوال بوذا (المستنير):

“الغيوم لا تختفي أبدًا، إنها تتحوّل إلى أمطار”

في نص شربل داغر، الغيمة هي كائن سرّي له أبعاد ومدلولات وتفسيرات متنوّعة، لا هو من لحم ولا من دم؛ لا هو سراب ولا هو خيال؛ إنه وبكل بساطة كل شيء، أي شيء، كل الكون؛ هذا الكائن-الغيمة هو أم وعشيقة، إلهة وخالق، طبيعة ونسغ، رموز قادمة من عصر قديم جدًا لا نعرفه، نحاول استقراء معالمه من خلال قراءة هذا النص النادر، حركة تصاعدية في هذا النص الفريد في تركيبته، وكأنه تأريخ لحياة الكاتب وخياله الرمزي وأحلامه الأكثر غرابة ومشاعره الأكثر عنوّة وصخبًا.

ولعلّ شربل داغر في هذا النص السوريالي، الشائك، الشاق والشيّق، المتعالي، المتسامي إلى حدّ الانزياح، يتماهى حكمًا ويتقاطع وصلا مع لوحة باقية في ذهني من زمن بعيد: إنها لوحة للرسام البلجيكي ماغريت René Magritte  لوحة شهيرة تحمل اسم “ابن الإنسان”، وكأن صيغة اللوحة في ما هي عليه تمثل نصّ شربل داغر المكتوب، حيث نجد في اللوحة ما يلي:

رسم رينيه ماغريت نفسه، في كامل أناقته معتمرًا قبعة انجليزية وخلفه غيمة عملاقة، جبّارة متعالية، وثمة تفاحة شهيّة تغطي كامل وجهه، حاجبة إيّاه عن النظّار من متأملي اللوحة؛ فهل أراد شربل هو أيضًا الاختباء وراء نصّه فلا يفصح لنا شيئًا من سريرته سوى ما كان متسربلا بالرموز والصور الأكثر غموضًا وعصيًّا على الفهم والتحليل؟!..

تغطية الوجه تعني الموت، الرحيل، من حيّز منظور إلى آخر غير منظور، انتقال من سقف إلى سقف أعلى من مفهوم إلى آخر، فهل كان شربل داغر يعني كل ذلك؟!!.. وهل التفاحة التي يذكرها تكرارًا في النص، تشبه في شيء تفاحة ماغريت؟

وإذا أطلق ماغريت على هذه اللوحة اسم “ابن الإنسان” مستعيرًا هذه التسمية من السيّد المسيح، فشربل داغر هو أيضًا ابن الإنسان، ذلك أنّه فاز باللقب مرتين: مرّة أولى في الولادة ومرّة ثانية في العشق وتكرار المتع واللذة.

أطلق المسيح على نفسه لقب ابن الإنسان في الإنجيل حين تنبأ بموته مصلوبًا معذبًا، وشربل داغر في ما هو يكمّل هذا التقليد عبر النص، أراده استعاديًّا لمشاعر تؤذن بالانتقال، رحلة عبر الزمن وعبر الحواس، تعود بالكاتب إلى ماضٍ ذاق فيه حلاوة الاستلقاء في بعد من فانتازيا الذكريات، نعيم المتع والأحاسيس.

 

أجل إنه زمن مضى تنعشه الغيمة بالإضافة إلى تفاح شهي عدنيّ المنشأ، بنكهة الخطيئة الأولى وملذاتها والشبق الأول؛ تحدو به محاولة لبناء ذكرى مختلفة لعمليّة الولادة من الرحم اللحمي، والنص كلّه يشبه خارطة ذكرى، نحار ونحن نفكّك رموزها، مثل خارطة كنز قراصنة مدفون، ما إذا كان الكلام يصلح للأم، للعشيقة أو لربّة من ربّات الجمال المعبودات في قرون ما قبل الوحي الإلهي!!..

لكن يبدو أن شربل داغر قد خاض كل هذه التجارب الذهنيّة الحسيّة، ومع الإناث، خاض كل التجارب، كما وأنّه ولد عدة مرات واستولد نفسه: الأم التي أنجبته، المرأة التي متّعته، المرأة التي شكّكته وتلك التي عذّبته فعذّبها، مجموعة إناث ملتبسات منهنّ تلك التي “حملته وهو لم يقوَ على حملها”.

نص شربل داغر هذا جامع وكثيف فيه كل شيء، فيه كل علوم البشر، آدابهم، فلسفتهم، أديانهم، معتقداتهم، وأقولها بصراحة إنه من أصعب الكتابات و”المرموزات”، كتلة صلدة من الأحاجي، والمعاني، أكثر إحكامًا وترابطًا من أعتى الشيفرات من عصر “الإنيغما” الألمانية في الحرب العالمية الثانية، إلى زمننا الحالي، زمن تكنولوجيا المعلومات.

أجل إنه نص طلسميّ، يستحضر المادة كما الروح، الوسادة، العتبة، الطاولة، السرير،… أشياء كثيرة، نمدّ اليد لكي نتلقفها، بيد أنها تبتعد عنّا وعن أفهامنا!!

إنه فعلا نترٌ من عالم آخر بعيد عن متناول ما هو معهود، وما هو متعارف عليه، فهل الكلمات “الداغرية” عصيّة فعلا على التفكيك، تداعيات لم أشاهدها آنفًا لدى “مالارميه” ولا “أراغون” أو “سيوران” وصولا إلى “أنسي الحاج” أو “شوقي أبي شقرا”!..

نص شربل داغر حاشد بمدلولاته، كثيف بمعانيه، بناء متراصّ لا يمكن أن تزيد أو تنقص منه شيئًا، أقرب إلى مدلولات الاحتفالية الكرنفالية كما حدّدها “باختين” حول الانكفاء الذي قد يقوّله القارئ؛ بينما الكاتب في مقاصده يعيش في أجواء بعيدة كل البعد عن  الهذيانات والضلال ولو أن شربل داغر يتحدّث عن: “نشيدي الآخير”..

نتساءل هل لديه رؤية نبويّة نفاذة إلى هذا الحدّ، وكيف تتسرّب كل هذه الدفقات: “غيمتي تنساني وأتفقّدها.

لم أفز بها في مسابقة، ولا وقعت عليها بعد طول مراقبة من زاوية عزلتي…”

إن العزلة بحد ذاتها مصدرٌ لتفجرات الخيال، ولكن هذا الخيال لا ينقص لدى شربل داغر، لا بل يتكوّن في كل لحظة مع تكوّن السحب في السماء، أو لا تكون هذه السماء عينها مصدر كل إلهامات هذا الكاتب، ومصدر نصوصه؟ حيث لا كلام ولا حوار سوى ذلك المنسكب بين الذات والذات، وبين الإنسان والخالق ويبقى اللغز في إمكانية الحوار المطلق بين ذات شربل وتلك الأنثى التي هي “استعارة تسعني أكثر من قصيدة”.

هذه الأنثى- الآخر التي تنسحب على كلّ الكائنات الأكثر خفة، الخارجة من عزلة حيث الصوت “يمسّد الخفيف في تعاليه”؛ فماذا يبقى من الصوت إذن إذا تلاشى إلى حدّ الخفّة؟!

في فضاء اللامعنى والانعدام لا يبقى سوى ذلك الكتاب: “كتاب أبيض مفتوح” يشبه “كتاب الرمال” لـ “جورجي بورخيس”، الذي في كلّ مرّة تفتحه فيها يبدأ من صفحة مختلفة وتقرأ فيه موضوعًا جديدًا وقصصًا جديدة.

وبما أننا ذكرنا “بورخيس” نطرح السؤال التالي: ماذا لو كانت الفراشة في نصّ شربل داغر حيث يستعين بخفّتها، هي عينها فراشة بورخيس التي حدّق بها وبادلته التحديق متسائلة عن مكانتها في ذهنه وخياله وتصوّراته؟!!..

في غيمة شربل داغر ملاك حارس قادم من لحظة الخلق الأولى، أمّ وعشيقة أم روح هاربة، لا يهمّ، المهمّ هو تلقف اللحظة:

“هي في منتهى أصابعي، وأنا في منتهى أصابعها”.

لوحة مايكل أنجلو: إصبع الإنسان في موازاة إصبع الربّ وجوق الملائكة وسط الغمام؛ فضاء منفتح على الزوال والبقاء في حدّ سواء.

كلّ هذه الاحتفالية العابقة بالطقوس والألغاز والبخور، هي هندسة حديثة للمتعة والشبق، احتمال مزجهما مع طقوس العبادة الروحيّة، تعود بنا إلى يوم كان الله “هي” وليس “هو”، نعود إلى معبد الكاهنة “إنهدوانا” كاهنة “إنانا” أمّ الأرض والمحيطات والأفلاك، أعادها شربل داغر إلى العصر الحديث في شكلها الكوني الجديد: “الغيمة”، دثار لا مادي، يحوطه و”يتخلله” مثل سحر شفيف من الملذات المحرّرة.

“غيمتي لحافي الذي من هواء ورنين، لا تمسح عرقي إذ يتصبب من جلدها، ولا عسل شفتيها عندما يتقطر من أغصاني”.

شربل داغر من تراكمات الشكل والصور والمعاني جعلت من هذا النص حقل ألغاز، وجنّة قصوى، صنعتها لتقول: إن لا جنّة أخرى بعدها في مكان آخر، هي كل شيء، ولو أن النص فيه استعادة لصورة الخلق الأول من ينابيعه التوراتيّة، تبقى الغيمة متحكّمة بعمود السحاب هذا الذي انشقّ يومًا ليدلّ على الابن الحبيب، ابن الإنسان المتجدّد دومًا مع تموز أو أدونيس وهذه المرة تحت غيمة شربل داغر!!..

24- 11- 2020

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *