مأتم جمهورية
يوسف طراد
إنها الجمهورية الثانية، وعدت أمها الجمهورية الأولى أن تزورها في السنة مرةًّ، زارتها في مدفنها وأحضرت معها فكر ميشال شيحا وشارل مالك بدل الورود والماء والقمح كما جرت العادة عندنا نحن للبنانيين عندما نزور موتانا. لم يكن معها معطفٌ يرد الجليد الذي سكنها، بل كان لديها جرابٌ مليئٌ بالشفقة على الشعب المسكين الجائع الضائع. ككلّ القبور في الجمهوريات المجاورة نبتت على حاشية القبر الأعشاب الطفيلية التي غطّت أهوال الحرب الأهلية، تجمّعت الفضلات البلاستيكية التي حملتها رياح إهمال المسؤولين.
اِستقبلت الجمهورية الأولى ابنتها بضحكةٍ مواربةٍ بين البهجة والعتاب، كونها لم تفهم سرّ مجيئها اليها، ارتبكت قليلًا، بعد السلام سألت عن سرّ هذا المجيء المبكّر، قبل أن تعاتبها على عدم الوفاء للأرض والساكنين فيها من قبل الحكّام. أخبرت الابنة والدتها أنها بين البقاء والرحيل، وإنها ستقصّ عليها حلمًا سيربكها كما فعلت زيارتها، فقد راودها الحلم بتاريخ 17 أوكتبر 2019 ومنذ ذلك التاريخ تعيش في قلقٍ دائمٍ. جلست عند رأسها وانفتح لها في القبر كوّةٌ، مدّت منها يدها، أخذت بطرف الدستور المدفون مع أمها تلفّه بين أصابعها توتّرًا، قالت إنها تحمل جثتها لتجاورها إلى غير أجلٍ، تمايل التراب تحتها، صوت ما يدوي كأن الأرض تنشقّ، من نفس الكوّة أتاها ذراع أمها ليحتويها، يدها التي طالما ربّتت على كتفها امتدت نحوها، جعلت لها بقربها موضعًا، فألقت رأسها على راحة أمَّها.
قالت الأم: جدّتك كانت حلوة جدًا، أطلقوا عليها اسم الانتداب، طالما تخاصموا للظفر بكراسيها، عندها قرر بطريركٌ عام 1920 حسم الخلاف وجعلها تختار فارسها (الحرّيّة والعيش المشترك). في ليلةٍ حالكة من ليالي سنة 1943 أتت القابلة إلى منزلنا وكانت الولادة قيصرية كما تأليف الحكومات في زمنك، من ثمّ دعا الجميع بالسلامة للوطن الذي سأعيش فيه.
أجابت الابنة: لي ابنة لم تبلغ سن الرشد بعد، تطالب بدم جدتها التي استشهدت عندما ذهبت بزيارة عملٍ إلى الطائف وتوفيت هناك بعد أن أشعلها أبناؤها حطبًا للحقد القادم، فتمزقت أوصالها مع تمزّق دستورها، ماتت وفي قلبها حكايات لم تقصّها على مسامع أحفادها.
لقد عدْت إليك يا أمي وتركت إبنتي تبني منزلها الجديد المختلف في هندسته عن منازلنا، عدْت محملةٌ بشيء من وجع ابنتي وخيبتي، عدْت بقلبٍ فيه من الهم الكثير، لكنني يا أمي أحمل حكايايَ من ساحات الثورة وهي ليست كتلك القصص التي قرأتها عن تاريخ بلادي. فالحلم الذي زفَّني إليه قدري سرعان ما نفض مني يديه، ملأ أقداحي دمعًا وانتهى! لم أكن أصلح زوجةً له، قبل أن يداهمه البكاء عليّ اتهمني بالموت وأنا ولدت جثةً يا أمي، أنا الذبيحة مرتين يوم ولادتي ويوم أموت، لماذا يا أمي يدك الباردة ملأتني دفئًا وصوتك كعادتك يهمس: “هوالدستور بفكر ميشال شيحا يا بنية وكيف للدستور أن يٌهمل”، سأعدك بأن هذا الدفء الذي أحسسته للحظة سوف أنقله إلى ابنتي الصاعدة (الجمهورية الثالثة) ليدفئها في مسيرتها فور ابتلاعي من الظلام السميك، فقريبًا سأكون معك في عتمة القبر، وينهال علينا ترابٌ من الوصاية، الانتهاكات والفساد.
الخميس 28 تشرين الثاني 2019