حضور الغياب
فيصل طالب
عندما يغيب كبير من بلادي، في زمن بائس ماكر، ينتابنا شعور عميق بأنّ ملمحاً آخر من ملامح وجه لبنان القديم الذي نشأنا على وهجه يختفي، تاركاً وراءه بقعة من الأسى تُضاف إلى المشهدية المكفهرّة، والمنكفئة من ساحة الحضور النابض بالحياة إلى ما وراء تلال الانتكاس والإحباط .
شجرة أخرى من الدوحة الرحبانية تنحني في زمن الجحود والنكران الذي صار غريباً في كل شيء. تُرى هل نضب جدول الفرح الذي رقرق حبّاً وعشقاً للحياة على مدى العمر الزاهي للرحباني الراحل؟! أم سيل الإبداع في جدول حياته صار سيلاً من الحب لا يستقر إلّا في تردّدات الزمن المفتوح على الأبدية؟! (https://www.costulessseguros.com/)
عندما يرحل الكبار من هذه الدنيا يأخذون معهم مفاتيح المسرّة، ويقفلون علينا أبواب الاغتمام والتحسّر، أو يتركوننا نهيم في ضباب الصمت العابق برائحة الفقد والخسران والحنين، في ظلال الأوقات الباهتة والباردة والضَجِرة.
إنّ صروح الذاكرة الفنية لا يبنيها غير المبدعين الاستثنائيين المتغلغلين في ثنايا الهوية الوطنية، الراسخين في انتمائهم إلى شخصيتهم الثقافية المتفاعلة مع الإبداعات الإنسانية المتنوّعة في مسار العالميّة لا العولمة؛ ومن تمرّسوا بذلك فإنّهم لا يغيبون، بل إنّ غيابهم ينبض حتماً بحضورهم؛ لأنّ أصدق تجلّيات الحضور وأعمقها هي في الغياب! لكأنّ الحضور الواقعي لا يقارن ب”الحضور الغيابي”، ولأنّ ما يميّز الكبار من الهامشيين هو تلك المفارقة اللافتة: الهامشيون أطياف بَهَتٍ في حضورهم، والكبار أطياف زَهْوٍ في غيابهم؛ لكأنّهم عندما يغيبون يولدون من جديد، لكنْ هذه المرّة من رحم الزمان.