سجلوا عندكم

” كَركَر خيطان” كارولين زعرب طايع

Views: 206

د. جورج شبلي

مَن لا تُغَرغِرْ عيناهُ، وهو يقرأ “كركر خيطان”، فواجِبٌ أن يُغرَزَ في عينيهِ مَيبَر…

إذا طُلِبَ أن نختصرَ المُؤَلَّفَ بكلمة، وهو أمرٌ شاقّ، لا يقعُ قلبُنا إلّا على واحدةٍ من دونِ غيرِها: أمّ.

ربَّما ظنَّ البعضُ أنّني سأميلُ الى كلمةِ “محبّة”، لورودِها كثيراً في النّصوص، وهذا البعضُ مُحِقّ، في مكانٍ ما، لكنّ الإختيارَ وقعَ بعدَ أن قارَنتُ، بالدّراسةِ والإحساس، بين الكلمتَين، فخلُصتُ الى أنّ الواحدةَ، منهما، تتضمَّنُ الأُخرى، وتختصرُها، والعكسُ غيرُ صحيح. فالمحبّةُ متنوِّعةُ التَوَجّه، للهِ وللحياةِ وللأشخاصِ…، ومُختلِفَةُ التّفسيرِ، فالصوفيّةُ تُحدِّدُ المحبةَ علاقةً لامحدودةً بين الإنسانِ والخالِق، تَصِلُ الى درجةِ حُلولِ الواحِدِ بالآخر. والأديانُ ترى في المحبةِ رابِطاً إلزاميّاً بين النّاس، وبعضُ المفكِّرين يجدُ المحبةَ شريعةً ذهنيّةً تحرِّرُ من كلِّ شيء… أمّا الأمّ، فليس لها سوى عنوانٍ وحيدٍ هو المحبّة.

مَن الذي لا يخرجُ من نفسِكَ إلّا بِنَزعِ نفسِك ؟ مَن الأَمثَلُ في القَبضِ على قلبِكَ، إنْ هو ضَلَّ وتاه ؟ مَن الذي لا شُغلَ له بكَ إلّا العبادة، لأنهُ يَقطرُ مُهَجاً ؟ مَن الذي تكونُ، معهُ، الى الرّبحِ، أَقربَ منكَ الى الخسارة ؟ مَن تَرِقُّ على أَسلَةِ قلبِه لغةُ الحَنان يَخزنُها ليخاطبَ بها فؤادَكَ بأَرَقِّ خطاب ؟

أسئلةٌ طرحَتها كارولين في ” كركر خيطان “، وأجابَت بكلمة: أمّي. نعم، أمُّها كانت، معها، الجنّةَ التي استوطنَتها لِطيبِ عَيشِها هناك، واستطاعَت، وحدَها، إِغواءَ وجدانِها، لتكونَ الأَبقى فيه. أمُّها، هذهالتي فاخرَت بالإنتماءِ إليها، كانت، معها، الأَحلمَ إِلفاً، والأنعمَ مطعماً، لذا، فتَكريمُها على مدى الصّفحات، كان تكريماً لنعيمِ قلبِ كارولين بالذّات.

الأمُّ، وحدَها، لا يَحولُ عليها الحَولُ، كما يقولُ ” ياقوت “، وكتابةُ كارولين عنها صادقةٌ كالعَقيق، والعقيقُ لا يكذب، أو هي حالةُ خشخشةِ النّسيمِ في الأغصان، والتي لها دَبٌّ لا يُكتَبُ بالحِبرِ، بل بالإحساس. هكذا أمُّ كارولين، نموذجٌ لأمّهاتِ الأزمنة، إذا حُسِرَ عن رأسِها، فإذا قُطَعُ الذَّهَب، وإذا منديلُها تَطريزُ أنغامِ القلبِ، لا يُنزَعُ منه إلّا انتزاعاً لإِمساكِهِ به.

العاميّةُ حِليةُ الكلام، وليسَت صنفاً ضيِّقاً فيه، قصدَت إليها كارولين لأنّ فيها استجابةً للموسيقى الوجدانيّةِ في قلبِها. لقد استودَعت الكاتِبةُ صفحاتِها ما فيَّأَت ظلالُ نفسِها من مرشوحاتٍ طَبَعَتها برِقّةٍ وحلاوةٍ وذَوق. (Adipex/)

لذا، عندما نفكُّ كيسَ مقطوعاتِها، ترشحُ آثارُ الأيامِ برَيحانِها، وسحرِها، كما في شَوكِها، ودموعِها. هي مرويّاتٌ طليقةٌ، وأسمارٌ من مَصنوعِ الحياة، فيها من المفاجآت والمُدهِشاتِ الخلّابةِ ما يتركُ في البالِ أثَراً كثيرَ الصّفاء. فالكتابةُ في ” كركر خيطان ” تعبقُ بالنّضجِ والسلاسةِ،ومن غيرِ عَناء، وهي، لِما تحرِّكُ في النّفسِ من لذّةٍ وإِمتاع، تحثُّ، تلقائيّاً، على متابعةِ القراءةِ حتى الخَتم.

إنَّ كَمَّ مقطوعاتِ كارولين في “كركر خيطان”، باللّغةِ المحكيّة، لم يكن ضجيجاً، فبينَه وبينَ المشاعرِ الإنسانيّة، دُنُوُّ دارٍ، وقُربُ مَحَلّ، ما يُسرِعُ الى أن نَأنسَ بهِ عندَ أوّلِ لقاء، وكلّما ازدَدنا دُنُوّاً ازدَدنا تَلَهُّفاً.فالكاتِبةُ، وإنْ بَدَت مُشاغِبةً،قد أطلقَت أَلوانَها على السَجيّةِ المُحَبَّبةِ، بشكلٍ عَذبٍ وظريف، من دونِ تَكَلُّفٍ أو تَصَنُّع، ومن دونِ إِسفافٍ ورَكاكة. فالحريّةُ والبَساطةُ، في النّصوص، تستأهلانِ وَقفةَ تَصفيقٍ إذ تؤكّدانِ على ما أوردَهُ أحدُ القَيِّمينَ على الكتابة، من أنّ العاميّةَ مَقسومٌ لها ألّا يَشهدَ هلالُ الجَمالِ، فيها، خُسوفاً.

كارولين، إنّ ذاكرةَ أيّامِك تَخيطُ الصّلَةَ بينَ الحاضرِ والماضي، بوفاءٍ فريد، والنُّزوحُ عنه، في زمنِنا، فُرقَةٌ تؤلِمُ لِضَياعِ الخِلالِ التي دَرَجَت عليها مِشيةُ أَهلِنا. كارولين، يا إنسانَ محبّة، إذا كانتِ الموسيقى تجعلُ السَّماعَ يُقيمُ في عالَمِ الإرتياح، فَ “كركرُ خيطانِكِ” يحتلُّ،بِديباجتِهِ، فينا، موقعَ السّحرِ في الجَمعِ بينَ القراءةِ والتأثُّر.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *