الحجّ إلى  مونيخ(9)عُمرة في سُجون ما قبل الفيريس

Views: 21

محمّد خريّف*

من سُجُون القيام والقعود

أشعر وأنا أكتشف من يوم إلى آخر ما يفتن العين في مونيخ من مشاهد الطبيعة الغنّاء وروعة التفنن في نحت العمران سواء أكان ذلك في حدائق أولمبيا بارك أوفي مارينا بلا تز أو حتى في قصور الملوك القدامى “بنمبهنبرغ**” وهو مكان متسع من الأرض مخصّص لمعلم خاص بملوك” بافاريا” القدامى، وقد صار منتزها شاسعا مفتوحا للعموم من الزّوّار والسّواح الأجانب وعنه تنسج الأخبار وتُروى القصص وتتكاثر الاساطير عنه وعن ملوكه الذين يُقال عنهم أنهم مروا من هنا وقد كان لهم اقامة شتاء أو صيف فيه والعهدة على ما يذكر مرافقي ،والقصور قصر الواحد الجمع بدءا من مدخل الحديقة الكبرى إلى منتهاها ولا منتهي لمسالكَ فيها ومساربَ لولبيّة تشقّها طولا تشقها الجداول والقنوات طولا وعُرضا، المعالم هنا الآن في داخل هذا القصر و خارجه لا تماثل الأطلال التي يبكي عليها الشعراء ولم يغادروا من متردّم في ثقافتنا البدائيّة البدويّة وهل نحن أحسن أم’ أخرجت للناس؟ 

ولا أثر في معالم القصور القديمة ما يدلّ على أنّ القائم فيها يعادي القاعد و ويحاول أن يُقصيَهُ من خارطة الأرض معالم وأعلاما ،كما يفعل من غزا أرضنا واستعبدها باسم الفتح المبين وفي نفسه حقد دفين دائم أبديّ إزاء الآخر ممّن سبقه من حاكم وسلطان وما دار في فلكه من حيوان وبشر وجماد ، فيمّحي بذلك أثر القاعد من الوجود بفعل القائم الذي يصول ويجول إلا بخلع أو نزول بعد صعود يعقبه أفول ونحوس ، وكذلك تفعل أديان السماء بالأوثان وبالأقوال وكذا يفعل دعاة الدين الإسلامي وحماته فينعتون ما سبقه من الثقافات بالجاهليّة والظّلمات وتلك سنة من سنن القيام والقعود ولا الجاهليّة القاعدة بجاهلة ولا تفاضل بينها وبين ما تلاها من ثقافة الفاتحين ولا جهُل لجاهليّة ولاعلم لمن تلاها في مجال المعلم والعلامة خارج حكم العقيدة والايدولوجيا.

ولم تكن ثقافة الفاتحين والغزاة سواء أكانوا من المؤمنين “بدين الحقّ” أو من الصّهاينة ومن لفّ لفهم من جماعاتالملك والتملّك الدينيّ ممّن يدّعون حيازة الله بحيازة المعجزة النبويّة الربّانية بها يشرّع لهم امتلاك الحاضر والماضي والمستقبل – ولعلّ التطهّر من أدران الأوهام وتوابعها يكون باستحمام العين وشارعها الفكر في منتزه القصور بمونيخ وهو الذييكاد أن يكون خاليا بالتمام من البشرزمن حللنا ذات مساء ونحن في يوم آخر من أيّام التوقّي وأخذ الحذر من الإصابة بفيريس الكورونا وقد تحلوالنزهة على انفراد بين السّواقي والمسارب وتحت ظلال أشجار تثقبها ابر شمس رطبة داخل الغابة المؤنسنة، ولا قانون لغاب يكدّر صفح الفسحة فينبئ بسوء المآب ولا غاب زهْو لبال ولا ضاق بالعاشق حال.

وبمدخل القصور معالم ثقافيّة منها مبنى كنيسة وساعة جداريّة لا تزول عقاربها ولا تعود على بدء والمعلمان مشهدان لاشاهدان على شهيد دون شهيد ولا شهادة لغير ماتراه العين،ولعلّ من التأويلاتأن لا يكون للدلالة والمدلول سوى علاقة اعتباطيّة كما يقول سوسير فيفسد ذلك على المعبّأ ذهنه راحته بل سكونه إلى يقين ما ترسّب في مجرى خياله من حصى رجم الشيطان وهل له أن يُوقف علامة الوقت بجانب علامة الإنسان المواطن لا الإنسان العبد على مفهوم البيان ولا بيان ولا يقين لإشارة دون إشارة وللإنسان الحقّ في ممارسة العبادة كما هو له الحقّفي نزوات التمتّع بالطبيعة وعلى القائم أن يصونما تركه القاعدمن معالم وأعلام بصيانتها ولو كان عدوّا له ،مخالفا له في الفكر والعقيدة ، والعلامة بقاؤها لايضرّ بقدر مالا ينفع زوالها فالمسألة في قاريء العلامة لا في العلامة.

ما أن يجتاز المرءعتبة هواجس المداخل متمشّيا في مسالك معبّدة وسط ساحة تخترقها قناة كبرى فسواق صغرى يجري ماؤها تحت غابة أشجارها باسقة فيسمع لها خرير مياه ذهبيّة بلون أشعة الشمس البافارية والشمس واحدة وان كان انعكاس أشعتها مختلفا هنا الآنولك أن تسير وترتاح على مقاعد من خشب ولا خوفَ على الفتاة سواء أكانت تتجوّل بمفردها أو مع صديقها من خطر الاِغتصاب ولا أحد يراقب حركات لهما أو سكنات أو ملاطفات والمكان آمن هنا الآن فلا الصبيّ يرتاع ولا أخبار لوالهة تخاف على فلذة كبدها من شر قطّاع الصراط المستقيم والمسالك داخلة في مسالك تخترق منتزه الغابة ولا أدغال تخيف وحوشها الصبايا فرادى أو جماعات ولمعبد أبولو سحر اللقاء الرومنسي في إطلالة البهجة بجمال البحيرة.

معبد أبولو

Nymphenburg temple

معبدأبولو معلم عريق لايزال صامدا داخل قصر الملوك القدامى في مونيخ يطلّ على بُحيرة وعيون عشّاق الطّبيعةتنهمر منها دموع الفرح ولا تنزمنها سوى رجفات البهجة يحييها فينا حنين الماء إلى الخرير ولمّا ينضب كالنهر المتجمّد ولمّا ينقطع نزول لغيث على مدار الفصول والسنين.

وللطّير طمأنينة وأمان خارج وكناته يشجيك منه شدو ويغنيك منه لحن قيتارة ولا رعاةهنا في هذه الربوع ولا تهرع شياه يأمرها الشابي في أغاني الرّعاة ويجري زورق الشاعر في خضم الجداول العظيم ولا غرق والمكان غير المكان وللزمان سحره الرّومنسيّ المُتماهي مع أوتار قضيب ولا كثيب هنا بعيدا عن صحاري العجوز المرمل وقرينته التشبيه والمجازولاهمّ تزيله حقيقة واستعارة ، وتنسى أنك أنت وأنت أنا ولا قادم لنا هنا الآن منّي سوى حبّات رمل وصحراء القول جدباء برواء الفم اللا ّجم الملجوم ولا حاجة لما لا تراه العين من نافل الهذر.

و هنا تضيع معاني الكلمات في مسارب الصّمت و الأشعة لا تحكي بل تروي بلل الظلال من هنا إلى هناك ومراتع التخت أعشاب من سجّاد النشأة ولا رُكوعً ولا سجود في محراب للاّت والعزة إلا لنزوات لا حدود لسجونها ولا من الخلوات ما لايسدّ عيونه غربال شمس والعيون منه غيوم تشعّ حورا ولا شبه لها بأبقار الوحش والنساء حسان انس ولسن من جنّ ولا زرّيعة ابليس ولا هنّ من جماد أو حيوان وتنصهر في بوتقة الخيال هواجس شتى من أحلام النوم ولعلّها أحلام اليقظة،  وإذا بالفُرن المتوقّد ينفخ لهيبا ببرده ورذاذ من شهد الثلج يتعسّل به اللّسان والحلق وللشمس طلعة قرص لتبره خسوف وكسوف يلمع ويخفت بدورة الأرض ولا شروقولاغرو ب إلاّ من باب التصرّف على وقع السجع بالعبارة ،وهل أعبد ما عبدتم ولا دين يفرّق بيننا في مهد الاخضرار ولا سجن لنافي معبد أبولو ولا عبادة.

مسرحنا طلق وأفق الأرض قد راق فتلمّظ الشفاه ولاتقتات من فُتات الغمام إلا صغار البطّ والإوز وسائر الطير من سنجاب وحمام وغربان والسّمك في أحواضه يسبحوكل شيء هنا الآن مروّض مُؤَنْسَن والسعادة مكسب لمن يصنعها من الإنس لا الجنّ في بلاد الفكر الفاعل لا المكر القائل ولا حجّ ولا عُمْرة لمن أذنب مثلي ولمّا تطهّره غير ألوان الماء ولا طهارة ولاَدنس لشيطان رجيم متهم بريء منذ الازل ولا جُرم يدينه ولا عبادة لمذنب يطلب المغفرةفي معبد أبولو ولا عيش بلا ذنب لمن تغتسل عيناه بغمام الشفرتين ولا وضوء له ولا صلوات خمس ولا حتى استحماما في بحيرات ترتوي على الدّوام بماء الجداول تأتيها من كل حدب وصوب فتنساب منها فيها دموع السواقي ترويها جذوع الشجر ….و أغصان المطر تنهمر زخّات زخّات و لا جًفاف ولا آبار ماؤها مالح أُجاج.

ولسنا في حاجة هنا إلى سماع نوادر الجاحظ أو إلى تلاوة ما تيسّر من زاد الحجّ والحجيج و الحجّاج من هاجوج وماجوج وأعجب كيف يُحافظ أهل الحلّ والعقد في مونيخ على كل معلم شيّده الإنسان ولو كان من الملوك الغابرين ولا يحافظ القائمون عندنا على ما تركه من سبقهم من القاعدينمن آثار والمعلم علامة في ثقافة السّيمياء الحديثة وعلامة الذّات غير الذّاتو معابد البربر عندنا كآثار الإغريق واليونان وغيرها من مقامات الأولياء الصّالحين ولا صلاح ولا بقاء إلا لمن صلحت شوكته ودامت هيبته بجاه المال والسلطان ومقام الكعبة الشريفة غير مقام بلحسن الشاذلي وقصور البايات في تونس شبيهة بقصور من تلاهم ولم تسلم على كثرتها من الإهمال وسوء الصيانة والمعلم كالعلامة فارغ يملأ بما به تشحن أخباره من تقديس وتدنيس، وموضوع المعلم و العلامة صَلُح لأن يكون موضوعا للدرس والدراسةلا العبادة والبكاء على الأطلال لكنّها قد تصلح لتكون مسرحا للهو والمجون وقد سبقنا في ذلك بالكلام أبو نواس شاعر الخمرة من زمان بوعنبة والمثل من عندنا ؟

وتحضر في الذهن وأنا في ما أزعم من حجّ لامبرّر له غير السّوح على ماراق من بساط الأرض في مونيخ و خيالات الآثار والقصور والحنايا عندنا تراودني بما يلحقها من دمار وإهمال سواء أكان بفعل فاعل الشر باسم الخير في تدمر في بلاد الشام في غيرها من بلدان الهلال لاندري أكان خصيبا بالفعل و لاندري أفتحها المسلمون أم غزوها رافعين رايات سود ، لاهجين بأصوات التكبير والتكفير ولا رسالة لغزاة سوى محو رسم من سبق وطمس المعالم بل القضاء علىدابر من فات ورحل ولا فرق في ذلك عندهم بين من سكن قصرا منيفا أو سكن كوخا أو تنسّك في نفق بربريّولا بقاء إلا للأفضل من أهل الملل والنّحل و من ادّعى الذودعمّا ألهم به الله رسوله في غار حراء من كتاب وحديث سنة دون غيره والمذاهب عدّة ؟

ولاشيء ينفع عندهم من معابد الإنسان ولا صلاح إلا للكتاب ولا فرق في ذلك بين ما بقي من علامات الإغريق واليونان وما نجا من تلف شبيه بعلامات ما هرب بالرّوح من تراث الأجداد في فترة ما قبل الإسلام من أشعار وأقوال بعضها أتلفت بإضمار وسابق اصرار- ولا فائدة علميّة تُرجى من سحق علامات مقامات الأولياء “الصالحين” ومحقها في المشرق والمغرب على وجه الخصوص: وكل العلامات مدعاة للشرك بالله في الاعتقاد الجمعيّ دون التفكير في أن تلك المعالم ليست سوى علامات لذوات واقعيّة وأخرى افتراضيّة والفرق قائم بين الذات وعلامتها،ولذلك كان للعلامات بهذا المفهوم  علم يعرف حديثا بالسيميولوجيا وهو علم أوسع من علم اللسان متى تجرّد من اكراهات الشعوذة العواطف وماانجرّ عنها من النزوات اللاّعلميّة والأحكام اليفينيّة المُسبقة بإصرار لاهوتيّ، وهل علم السّيمياء الحديث سوى علم اللاّيقين المفتوح على التأويل والتأويل المضادّ ، وثقافة الاختلاف لاتميّز ولا تفاضل. بين هذه العلامة وتلك مادامت صالحة للإفادة دون العبادة ؟ وفي المجتمعات اللاّسيميائيّة كمجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة تراث علاماتيّ مهمّ تجسّده بقايا من علامات تماثيل قديمة وأخرى حديثة لا تلقى من القائمين في بلدانها أو الثائرين على القاعدين فيها سوى الإهمال والتّخريب والذكر المنكرمن الجماعات التكفيريّة الارهابيّة.

(يتبع)

***

(*) كاتب من تونس/ مونيخ /مارس/ افريل 2020*

** Nymphenburg

(Klonopin)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *