المفكّر حسن عجمي: “التعصب الديني ينسف الحضارة”

Views: 418

 حنان عقيل

 

ينطلق الباحث والشاعر اللبناني حسن عجمي في أطروحاته الفكريّة من مُنطلقات فلسفيّة تستند إلى أدوات معرفيّة متنوعة استطاع عبر توظيفها تقديم مقاربات جديدة في الفكر والثقافة على المستويين العربي والعالمي، في جهد بحثي ثري منثور فيما يربو على عشرين كتابًا بالعربية والإنجليزية بين الفلسفة والشعر، على رأسها سلسلة كتب تقدم أطروحات مترابطة بدرجة كبيرة تهدف إلى مساءلة العديد من الإشكالات الفكريّة، على رأسها قضية التخلف الحضاري في العالم العربي؛ هي «السوبر حداثة»، «السوبر مستقبلية»، «السوبر أصولية»، «السوبر معلوماتية»، «السوبر تخلف»، «السوبر مثالية».

من جهة أخرى، ثمة جهد نظري لافت للباحث اللبناني في ما يتعلق بإشكاليات الشعر وقضاياه، يستحق التوقف أمامه، جهد يستند إلى إيمان بضرورة عدم الفصل بين الميادين الإبداعية المختلفة من آداب وعلوم وفلسفة، وأهمية انصهارها في بوتقة واحدة، وإلى كتاباته الشعرية وآرائه النقدية فيما يخص واقع الشعر العربي وما ينبغي أن يكون عليه.

 

*لك عدد من الكتب اتخذت لها عنوان “السوبر”.. هل هذا تعبير في الأساس عن تدهور الحالة العربية عما هي موصوفة به من تخلف وأصولية ورجعية؟ وكيف كانت بداية فكرة تلك السلسلة وهل هناك أعمال أخرى ستنضم إليها؟

جزء من هذه السلسلة تعبير  عن التخلّف السائد في العالم العربي وتفسير أسبابه وأجزاء أخرى من هذه السلسلة تهدف إلى تفسير الظواهر وتحليل المفاهيم فلسفياً. بداية فكرة تلك السلسلة هي الرغبة الفلسفية للخروج من الحداثة وما بعد الحداثة وتقديم ما هو مختلف عنهما وبذلك نشأت لدي فكرة السوبر حداثة التي تتجاوز الحداثة وما بعدها. تتكوّن سلسلة السوبرات من كتب عديدة منها “السوبر حداثة” و”السوبر مستقبلية” و”السوبر أصولية” و”السوبر تخلّف”. أكتفي بما أصدرتُ من هذه السلسلة وأبدأ حالياً بكتابات أخرى مرتبطة بالفلسفات السابقة ومغايرة عنها في آن. فالفكر الحيّ والحرّ يستمر بالتطوّر من خلال آليات متعدّدة منها تطبيق النظريات على وقائع جديدة وإضافة تفاصيل دقيقة للتحاليل والتفاسير الفلسفية بغرض تعزيز قدراتها التحليلية والتفسيرية. لكن كل هذه المشاريع الفلسفية السابقة التي أصدرتها والحالية التي سوف أصدرها مرتبطة فيما بينها. فمثلاً تعتبر السوبر حداثة أنَّ الكون غير مُحدَّد ورغم ذلك من الممكن معرفته ما يجعلها تختلف عن الحداثة القائلة بمُحدَّدية الكون وإمكانية معرفته وما بعد الحداثة القائلة بلا مُحدَّدية الكون وعدم إمكانية معرفته. للسوبر حداثة قدرات تفسيرية عديدة وناجحة. فبما أنَّ الكون غير مُحدَّد ما هو، إذن من المتوقع أن تنجح نظريات علمية عديدة في وصف الكون وتفسيره رغم اختلافها وتعارضها كنجاح نظرية النسبية لأينشتاين القائلة بأنَّ قوانين الطبيعة حتمية ونجاح نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية القائلة بأنَّ قوانين الكون احتمالية وليست حتمية. هكذا تفسِّر السوبر حداثة نجاح النظريات العلمية رغم الاختلاف فيما بينها. وإن كان الكون غير مُحدَّد كما تقول السوبر حداثة فحينئذٍ من المتوقع أن تصبح الحقائق مُحدَّدة في المستقبل فقط فتتخذ ماهياتها في المستقبل الذي لم يتحقق بعد وبذلك يبدأ التاريخ من المستقبل كما تؤكِّد السوبر مستقبلية. هذا مثلٌ على الارتباط المنطقي لهذا المشروع الفلسفي.

*في كتابك “السوبر أصولية” قلت إن “التراث غير موجود بشكل مستقل عنا بل يعتمد على وجودنا، الشعوب المتخلفة لديها تراث متخلف والشعوب المتقدمة لديها تراث متقدم”.. هل من الممكن أن تقود القراءات المختلفة للتراث بين الشعوب إلى هذه النتيجة القطعية؟ أليس التراث حاملًا لوقائع ثابتة ربما تثبت عكس تلك النتيجة في بعض أوجهها؟

جوهر السوبر أصولية كفلسفة مغايرة للأصولية والحداثة هو التحرّر من الأصول الثابتة والمطلقة المُحدَّدة في الماضي واعتبار الأصول الدينية وتفاصيلها مُحدَّدة فقط في المستقبل على ضوء دراستنا للدين اعتماداً على المنطق والعِلم والفلسفة. وبذلك تؤكِّد السوبر أصولية على أننا نحن مَن نصنع التراث كالتراث الديني فإن كنا متطوّرين تطوّر تراثنا وإن كنا متخلّفين تخلّف تراثنا. هذا يتضمن قبول تطوير الأديان بتطوير فهمنا لها. فكل الوقائع والأفكار الدينية متغيّرة في الحاضر والماضي وإلا أصبحت ثابتة ومطلقة كثبوت الله ومطلقيته ما يناقض الإيمان بالتوحيد. إذا اعتبرنا أنَّ الأفكار الدينية ثابتة ومطلقة فحينها سوف تصبح هذه الأفكار آلهة كالله الثابت والمطلق فنكون بذلك قد أشركنا بالله. من هنا الإيمان بثبوت العقائد ومطلقيتها إيمان متناقض. أما القراءات المختلفة للتراث نفسه فخير دليل على أنَّ التراث من صنعنا ما يحرِّر التراث ويحرِّرنا في آن.

 

*تعرضت لدور فلسفة اللغة في تشكيل المذاهب الدينية المختلفة في الأديان كافة.. كيف يمكن أن تكون لتلك الوجهة أثرها في خلخلة بنية التعصب الديني؟ ولِم لا يزال الخطاب الديني السائد برأيك متمسكًا بقراءات أحادية للدين؟

فلسفة اللغة هي المحور الأساسي الذي على ضوئه تُبنَى المذاهب الفكرية والدينية المتنوّعة. وبذلك الخلاف العقائدي ضمن الدين نفسه وبين الأديان المتعدّدة هو خلاف فلسفي ما يُبرِّر ويحتِّم منطقياً عدم التعصب لمذهب دون آخر وعدم معاداة مذاهب الآخرين ما يؤسِّس للسلام الأهلي. مثلٌ على محورية فلسفة اللغة هو التالي: بالنسبة إلى إبن سينا، المعنى هو الذي تدركه النفس وبذلك معاني الدين هي ما تدركه النفوس ما يؤدي إلى قبول التأويل الباطني للدين فمن الممكن إدراك المعاني الدينية من خلال أفكار فلسفية أو صوفية ما يحتِّم نشوء التأويل الباطني. وهذا يُفسِّر خوض إبن سينا في التأويل الباطني للإسلام. لكن إبن تيمية يعتبر أنَّ السياق هو الذي يُحدِّد المعنى وبذلك من المتوقع أن يُفسِّر الإسلام من خلال سياقه فيقبل بالتفسير الظاهري للدين بدلاً من قبول التأويل الباطني. وما زلنا سجناء قراءات أحادية للدين من جراء سيادة السوبر تخلّف الكامن في اعتقادنا الراسخ بأنَّ معتقداتنا يقينيات ثابتة ومطلقة غير قابلة للتغيير والاستبدال أو التطوّر ما يؤدي إلى رفض الآخرين المختلفين عنا فيما يعتقدون فيؤسِّس للفِتَن والحروب الطائفية والأهلية.

*في كتابك “السوبر تخلف” قلت إن الشعب المتخلف هو الشعب الذي لا ينتج ما هو مفيد للبشرية وللعالم، أما الشعب السوبر متخلف هو الشعب الذي يطور التخلف.. كيف طوّر العرب والمسلمون في عالم اليوم ذلك “السوبر تخلف” الذي أشرت إليه؟

السوبر تخلّف هو تطوير التخلّف من خلال تقديم العِلم على أنه جهل وتقديم الجهل على أنه عِلم. ولقد أجدنا نحن العرب في صياغة السوبر تخلّف لكنه اليوم يسود أيضاً في الغرب. أمسى السوبر تخلّف جائحة سائدة في الشرق والغرب معاً وهو أخطر من جائحة كورونا لأنه يُصيب العقل والسلوك فيحوّلهما إلى فيروسات متنقلة تقتل العقل العلمي والمنطقي كما تقتل المشاعر الإنسانية والقيم من خلال التعصب ليقينياتنا المخادعة. والعرب والمسلمون طوّروا السوبر تخلّف من خلال تكريس الجهل على أنه عِلم وتكريس العِلم على أنه جهل. مثل ذلك أنَّ انتشار قبول نظرية المؤامرة في العالم العربي والإسلامي خير دليل على سيادة السوبر تخلّف. فنظرية المؤامرة نظرية غير علمية لأنه من المستحيل اختبارها على ضوء أية وقائع بينما العِلم هو القابل للاختبار. لكن العديد من العرب والمسلمين يقدّمون نظرية المؤامرة على أنها عِلم صادق بينما في الحقيقة هي نظرية جهل وتجهيل لكونها غير علمية. هذا مثل على تقديم الجهل على أنه عِلم. كما تشارك العديد من وسائل الاعلام والقنوات التلفزيونية الفضائية منها والمحلية في العالم العربي والاسلامي في نشر الجهل والتجهيل ودعم سيادة السوبر تخلّف من خلال بث برامج تقدّم الجهل كعِلم كبرامج التنجيم والأبراج والتنبؤ الخرافي بالمستقبل بالإضافة إلى نشر التعصب والكراهية والاقتتال بين العرب والترويج للفتنة الطائفية الاسلامية الكبرى. إنه زمن سيادة نشر الفِتَن والحروب وهذا جزء لا يتجزأ من السوبر تخلّف الكامن في التعصب ليقينيات معيّنة التي تحتِّم رفض الآخر فتؤدي لا محالة إلى الحروب في عالمنا العربي والاسلامي التي تدمِّر إنسانية كل إنسان منا.

*صِغت في الكتاب ذاته معادلة تربط بين الإرهابين الشرقي والغربي والعلاقة مع التكنولوجيا والعلم..لم جاء هذا الربط؟ وما الذي يفرق الإرهاب في الشرق عنه في الغرب برأيك؟

للسوبر تخلّف معادلة أساسية تربط بين التخلّف والتكنولوجيا والعِلم والهدف منها تفسير نشوء التخلّف وأسباب تطوّره. هذه المعادلة هي التالية: التخلّف يساوي التكنولوجيا مقسومة رياضياً على العِلم وبذلك إذا ازداد استخدامنا واعتمادنا على التكنولوجيا وتناقص قبولنا للعِلم والمشاركة في إنتاجه فحينها يزداد التخلّف ويتطوّر. وهذا ما حدث معنا نحن العرب فحين ازداد استعمالنا للتكنولوجيا ولكن تناقص قبولنا للعِلم والمشاركة في صياغته وقعنا حينئذٍ في السوبر تخلّف فازداد تخلّفنا وتطوّر. خير دليل على صدق هذه المعادلة هو أننا نستعمل التكنولوجيا ونعتمد عليها لكننا لم نتطوّر بل ازداد تخلّفنا. فمثلاً أين طبقة العلماء العرب؟ إنها طبقة غائبة كغياب حضورنا العربي.  من جهة أخرى، عادةً ما تمارس الدول الغربية إرهابها من خلال استغلال الشعوب والدول الأخرى واستعبادها إما من خلال استعمارها عسكرياً أو استعمارها اقتصادياً وثقافياً أو استعمارها بكل تلك الأساليب الإرهابية معاً. أما إرهاب الشرق وبالأخص إرهاب الشرق الأوسط فمعظمه إرهاب جماعات وأحزاب وطوائف بدلاً من إرهاب دول. لكن مصدر الإرهاب الغربي والشرقي مصدر واحد ألا وهو السوبر تخلّف الكامن في اعتبار معتقداتنا يقينيات لا تقبل الشك والمراجعة ما يدفعنا إلى التعصب لها ورفض الآخرين فاغتيالهم. وبذلك السوبر تخلّف مصدر الإرهاب ما يتضمن أنَّ معادلة السوبر تخلّف تفسِّر أيضاً لماذا ينشأ الإرهاب. فأصل الإرهاب هو السوبر تخلّف لأنَّ السوبر تخلّف يؤدي إلى رفض الآخر فاغتياله معنوياً أو جسدياً أو معنوياً وجسدياً معاً من جراء استخدام التكنولوجيا لنشر الجهل والتجهيل والتعصب ورفض العِلم الخالي من اليقينيات الكاذبة التي نتعصب لها.

 

*تحدثت عن العلمانية وأهميتها لكل مجتمع في كتابك “الفلسفة الإنسانوية “.. بم تفسر العداء العربي والنظرة السلبية لأي توجه علماني.. هل جاء ذلك بسبب بنية راسخة من التخلف أم هو رد فعل على ممارسات فعلية متطرفة وعدائية إزاء المعتقدات الدينية للجماهير؟

في كتابي “الفلسفة الإنسانوية: العلمنالوجيا والعقلنالوجيا ” أوضحتُ المضامين الإنسانوية الأساسية التي تؤكِّد على وحدة البشر ووحدة الأديان والثقافات ووحدة المذاهب الفلسفية بغرض تحقيق السلام الأهلي من خلال رفض فلسفة الثنائيات التي تميّز بين الأنا والآخر. والعلمنالوجيا والعقلنالوجيا دعامتا الإنسانوية. فالعلمنالوجيا (أي علم العلمنة) مفادها علمنة الظواهر من خلال فصلها عن ماهياتها المُحدَّدة سلفاً ما يضمن تحرّرنا من مُحدَّدية الظواهر والحقائق بينما العقلنالوجيا (أي علم العقلنة) فمفادها عقلنة الظواهر من خلال تحليلها على أنها قرارات إنسانوية عقلانية مستقبلية معتمدة في تكوّنها على الإنسان نفسه ما يتضمن ويضمن محورية الوجود الإنساني ودوره الفعّال في صياغة الوقائع والحقائق ومعانيها. أما العدائية في العالم العربي تجاه العلمانية والديمقراطية أيضاً فمصدرها السوبر تخلّف المتمثل في هذا السياق بعدم فهم المفاهيم فهماً حقيقياً. فالاتجاه السائد في العالم العربي هو تصوير العلمانية على أنها معادية للدين بينما في الحقيقة العلمانية هي فصل الدين عن الدولة وبذلك العلمانية ضمانة عدم استغلال الدين لمصالح سياسية واقتصادية ما يضمن تحرير الدين من سلطة الحاكم. هكذا العلمانية نصيرة الدين وليست عدوته ولكن فهمنا الخاطىء للعلمانية على أنها نقيض الدين أساس رفض العديد من العرب للعلمانية. أما الديمقراطية فهي حُكم الحقوق الإنسانية كالحريات والمساواة أمام القانون والمساواة الاجتماعية والاقتصادية بينما معظم العرب يظنون أنَّ الديمقراطية مجرّد انتخاب ممثلي الشعب ورئيس الدولة ما يشوّه مفهوم الديمقراطية ونظامها. العلمانية والديمقراطية وجهان لعملة واحدة لا تتجزأ. فلا ديمقراطية بلا حقوق إنسانية تضمنها العلمانية من خلال فصل الدين عن الدولة فاعتبار كل مواطن كينونة وقيمة مستقلة في حدّ ذاتها بمعزل عما يعتقد. بالعلمانية نحرّر الدين ونتحرّر. وبالديمقراطية نتطوّر بفضل الحريات والمساواة التي تضمن الإنتاج والابتكار والإبداع. لا حضارة حقيقية بلا حريات ومساواة.

*قلت إن “الدين قرار إنسانوي مستقبلي يتمحور حول فهم ما يعتبر وحيا على ضوء الواقع والمنطق والتفكير الفلسفي الموضوعي والعلوم والمعارف والقيم الإنسانية”.. إلى أي مدى تمثل تلك الفكرة برأيك ركيزة للانعتاق من أزمات المجتمعات العربية في الوقت الراهن؟

تحليل الدين على أنه قرار إنسانوي مستقبلي حول ما يعتبر وحياً على ضوء العِلم والمعارف والقيم هو الركيزة الأساسية للانعتاق من أزمات الحضارة العربية لأنَّ هذا التحليل يحرّر الدين مما فُرِض عليه في الماضي ويجعله حياً بالفعل من خلال استلزام التفكير فيه وتفسيره وتأويله على ضوء القرارات الإنسانوية المستقبلية المعتمدة على التفكير العلمي والقيم الإنسانية. وبذلك يحرّرنا هذا التحليل من الفكر الماضوي وسلوكياته كما يدفع بنا إلى تطوير الفكر الديني وأنسنته على أساس ما نكتشف من نماذج ومبادىء وقيم جديدة في المستقبل. وكل هذا يضمن التطوّر من خلال التحرّر من سجون الماضي والمشاركة في إنتاج فكر مبتكر وفلسفات وعلوم جديدة. الأديان المُقيَّدة بقيود الماضي أديان ميتة.حين نعتبر أنَّ الدين قرار إنسانوي مستقبلي أي يتشكّل في المستقبل على ضوء القيم والمعارف الإنسانية التي ننتجها فعندئذٍ يتكوّن الدين على أساس ما ننتج وما سوف ننتج من قيم ومعارف فنضمن التحرّر من الفهم الماضوي للدين.

*هل من سبيل لتخليص المجتمعات العربية مما سميّته “السوبر ماضوية” والانطلاق نحو تعزيز التفكير العلمي؟ ما العوائق التي تحول دون تحقيق ذلك؟

من الممكن التحرّر من السوبر ماضوية وذلك من خلال اتباع وتطوير فلسفات معيّنة كالفلسفة السوبر مستقبلية. السوبر ماضوية هي أن يبدأ التاريخ من الماضي ويتجه نحو الماضي وينتهي فيه بينما السوبر مستقبلية تؤكِّد على أن التاريخ يبدأ من المستقبل فتتكوّن الحقائق والظواهر والمعاني في المستقبل كأن تكون الحقيقة قراراً علمياً في المستقبل. نحن العرب سوبر ماضويون لأننا نبدأ من الماضي وننتهي فيه. ولكي نتجنب هذه الكارثة الحضارية التي تسجن عقولنا وسلوكياتنا في نماذج فكرية وسلوكية ماضوية لا بدّ من اعتماد السوبر مستقبلية التي تدفع بنا إلى التحرّر من الماضي وإعادة صياغته على ضوء قراراتنا العلمية المستقبلية وبناء مستقبل على أساس قراراتنا الإنسانوية القائمة على الحقوق والمبادىء العالمية كالحريات والمساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الجميع. السوبر مستقبلية تضمن الخلاص من السوبر ماضوية لأنها تضمن قبول العِلم والمشاركة في إنتاج العلوم ما يحرّرنا من السوبر ماضوية. فالسوبر مستقبلية تقول إنَّ المعنى قرار  اجتماعي في المستقبل بينما الحقيقة قرار  علمي في المستقبل. وبذلك الحقائق معتمدة على العِلم الذي سوف ننتجه بينما المعاني معتمدة على قراراتنا الاجتماعية المستقبلية التي من ضمنها القرارات العلمية. هكذا تضمن السوبر مستقبلية الخلاص من السوبر ماضوية من خلال العِلم وسيادته. أما العائق الأساس أمام تحرّرنا من السوبر ماضوية فهو السوبر تخلّف الكامن في تقديم العِلم على أنه جهل وتقديم الجهل على أنه عِلم. ولا خلاص من السوبر تخلّف سوى من خلال قبول العِلم والتفكير العلمي والمشاركة في صياغة العلوم وذلك من خلال قبول فلسفات معيّنة كالفلسفة السوبر مستقبلية التي تؤكّد على تفوّق العِلم ومحورية المستقبل في صناعة الحاضر والماضي معاً. 

 

*تطرقت لما سميّته “ارتفاع معدل اللا معنى في عباراتنا” من خلال الحديث عن واقع الأدب والشعر العربي الحديث، منتقدًا للعديد من الصور الشعرية في الشعر العربي كشعر محمود درويش وأدونيس.. لم الإصرار على فكرة دخول العلم إلى الشعر؟ أليس دور الشعر القفز على المنطق والارتكاز على جموح الخيال وهو ما يصنع من الصور الشعرية تميُزها؟

معظم الشِعر العربي بلا سياق وبلا قصد ومقاصد ما جعله خال ٍ من المعنى. الآداب ومن ضمنها الشِعر معتمدة على الخيال ولكن العِلم أيضاً يعتمد على الخيال المتضمن لقضايا ومفاهيم علمية. فمثلاً قول أينشتاين “الله لا يلعب بالنرد” قول خيالي يصوّر الله على أنه لا يقامر بالنرد ويتضمن أنَّ قوانين الطبيعة حتمية وليست احتمالية تماماً كما قول الفيزيائي ستيفن هوكنغ “الله يلعب بالنرد ويرمي النرد حيث لا نراه” يعتمد على الخيال ويتضمن قبول أنَّ قوانين الطبيعة احتمالية وليست حتمية على نقيض من قول أينشتاين. هكذا العِلم يعتمد على الخيال تماماً كالأدب والشِعر. فالعقل البشري واحد لا يتجزأ وهو مصدر المشاعر أيضاً. العقل والشعور كينونة واحدة لا تنفصل. فمشاعرنا تتأثر بما نفكّر والعكس صحيح. بكلامٍ آخر، تتكوّن المشاعر على ضوء ما يجري في عقولنا تماماً كما أنَّ ما نفكّر فيه يتشكّل من مشاعرنا أيضاً. من هنا الفصل بين الميادين الإبداعية المختلفة كالأدب والعِلم والفلسفة فصل كاذب ومخادع. بل كل الحقول الإبداعية كالآداب والفنون والعلوم والفلسفة تشكِّل حقلاً إبداعياً ومعرفياً واحداً يستحيل الفصل فيما بينها. ولذلك الشعوب المتطوّرة في آدابها متطوّرة أيضاً في علومها والعكس صحيح. من هذا المنطلق، اعتماد الشِعر العربي على اللعب على الكلمات وجمع ما لا يُجمَع منطقياً وعقلانياً من مفاهيم بدلاً من بناء المعاني ضمن سياقات هادفة ذات مقاصد فكرية وفلسفية وعلمية ومنطقية هو اعتماد على السوبر تخلّف القائم على الجهل والتجهيل من خلال صياغة عبارات بلا معانٍ.

*مع تنصيب بايدن رئيسًا لأمريكا.. إلى أي مدى تعتقد بأن “الترامبية” كظاهرة اجتماعية وسياسية ستظل مؤثرة وفاعلة على الصعيدين الداخلي والخارجي؟ 

لا زوال للترامبية مع سيادة السوبر تخلّف فهي تجسّد صريح لآليات تطوير التخلّف وسيادته. فالتعصب الديني والطائفي والعِرقي سيد ما يُدعَى بالحضارة الآن ما حوّل المجتمعات إلى جماعات متقاتلة ونسف دعامات الحضارة الحقة والحقيقية. وهذا ما يصدق في الشرق والغرب معاً. مثل ذلك أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تتكوّن من جماعات كالجماعات العِرقية المختلفة والمتصارعة بدلاً من أن تتكوّن من مجتمع حقيقي يتفاعل أفراده بسلام تماماً كما أنَّ لبنان كمثل آخر يتشكّل من طوائف متصارعة بدلاً من مجتمع حقيقي. وهذا تجسّد واضح للسوبر تخلّف القائم على قبول اليقينيات الكاذبة التي تحتِّم رفض الآخرين واغتيالهم. الترامبية لا تموت بل تتغذّى من سوبر تخلّفنا الذي نفتخر به باستمرار. فمثلاً الترامبية كظاهرة من ظواهر السوبر تخلّف من جراء تمسكها باليقينيات المخادعة ورفضها للعِلم وللآخرين سائدة في معظم الجامعات أيضاً وفي الشرق والغرب معاً. فمعظم الجامعات تخرِّج إرهابيين بدلاً من علماء وشعراء وفلاسفة.

*ما الذي كشفته جائحة كورونا برأيك من عورات النظام العالمي الحالي؟ هل تتفق مع ما ذهب إليه هنري كسينجر من أن ذلك الفيروس سيغير النظام العالمي إلى الأبد؟ كيف ستكون ملامح ذلك التغيير من وجهة نظرك؟

النظام العالمي الحالي هو نظام الفوضى واللامساواة والضجيج لأنه مبني على السوبر تخلّف الكامن في التمييز بين البشر ونشر الجهل والتعصب. فالدول والشعوب المنقسمة والمتقاتلة فيما بينها دلالة على سوبر تخلّفنا من جراء رفض ما يقوله العِلم من وحدة البشرية فإن انقسمت انهارت وزالت. فالأرض وما عليها وما فيها كينونة حية واحدة لا تتجزأ. لقد كشفت جائحة كورونا العورة الأساسية للنظام العالمي المهيمن ألا وهي عورة السوبر تخلّف. فمثلاً جائحة كورونا طوّرت مناهج التفكير الخرافي القائمة على نظريات المؤامرة ما زاد من تخلّف العديد من الأمم والشعوب. وهذا هو التغيير المصاحب لجائحة كورونا ألا وهو تطوير الفكر اللاعلمي فتطوير التخلّف. لكن من الممكن التحرّر من هذا الوباء الفكري المصاحب لوباء كورونا من خلال استعادة الفكر العلمي ومحاربة العقل الكوروني المتمثل في تطوير التخلّف العالمي وذلك من خلال نماذج فكرية وفلسفية معيّنة كالسوبر حداثة والسوبر مستقبلية التي تؤكِّد على لامُحدَّدية الحقائق والمعاني وتربطها بقراراتنا العلمية والعقلانية والإنسانوية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *