حتميّة “صراع البقاء”

Views: 885

د. جورج طراد

 

*إلى المفكر العربي علي الشرفا

 

 إذا كان صحيحا أن الولايات المتّحدة الأميركيّة، بإدارتها الجديدة، تستعجل تسوية الأمور مع الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة من أجل استعادة العمل بالأتفاق النووي الشهير، فإن ثمّة دافعا قويّا يكمن وراء هذا الاستعجال. وهناك مَنْ يجزم بأن الرغبة الضاغطة في التفرّغ للملف الصيني هي التي جعلتْ إدارة بايدن تقدّم التنازلات والتسهيلات لطيّ ملف التوتر الذي ساد عهد الإدارة الماضية في البيت الأبيض. فالملف الصيني محْوري ومُزْمِن، لاسيما من الناحية الإقتصاديّة، حيث فرضتْ بكين نفسها طوال العقود الماضية، قوّة اقتصاديّة عظمى، وأصبح لها سطوة فعّالة حتى على الاقتصاديات العالميّة، وفي طليعتها الاقتصاديات الأميركيّة.

ومعروف أن الصين، باستثناء صراعها التاريخي مع تايوان وتوتّرها المزمن مع التيبيتيّين البوذيّين، ليس لها صراعات سياسيّة متأجّجة على الساحة العالميّة. حتّى في خضمّ منافستها مع غريمها الشيوعي السوفياتي، فإنها لم تكن تصل في علاقتها السياسيّة إلى حافة الهاوية، أو إلى نقطة اللارجوع. ذلك أن همّ الصين الأوّل كان الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا، وهدفها الأكبر هو إغراق العالم، كل العالم، بمنتوجاتها المتنوِّعة والقادرة على غزو الأسواق، كل الأسواق. وما القيود الإقتصادية الصارمة التي كانت الإدارة الأميركيّة تحرص على فرضها دوريّا على البضائع الصينيّة سوى خير دليل على مدى خوفها من التنين الأحمر!

 

إذًا، سرّ تفوّق الصين يكمن في تغليبها كفّة الإقتصاد على كفّة السياسة. والمعادلة نفسها اتّبعتْها اليابان التي لا يكاد حضورها السياسي على الساحة العالميّة، يُذْكَر إلا نادرا. ذلك أن أولويتها الدائمة، منذ ما بعد الحرب العالميّة الثانية، كانت للأقتصاد وللتكنولوجيا. وقد نجحتْ في ذلك إلى أبعد الحدود.

والتجربة اليابانيّة معبِّرة للغاية. فعندما كانت طوكيو غاطسة في السياسة عشية الحرب العالميّة الثانية، تدهورتْ أوضاعها وتدمّرت مدنها ومَرافقها الحيوية، وليس فقط هيروشيما وناغازاكي. وعندما طوَتْ مُكْرَهة صفحة السياسة وركّزتْ على الأقتصاد، عرفتْ الإزدهار والقوة حتى أصبحتْ، في غضون سنوات قليلة، واحدة من أقوى دول العالم إقتصاديّا وماليّا.

 

وما يُقال عن اليابان يمكن تعميمه أيضا، ولوْ بدرجات متفاوتة، على كلّ مِنْ ماليزيا وسنغفورة، وبدرجة أكبر على كوريا الجنوبيّة التي تمكّنتْ، رغم جرحها الوطني والسياسي النازف جرّاء صراعها مع كوريا الشماليّة، من أن تفرض نفسها قوّة اقتصاديّة بارزة لأنها أرجعتْ اهتماماتها السياسيّة إلى المقاعد الخلفيّة، على ان تتصدّر نشاطاتها الإقتصادية قائمة أولوياتها الوطنيّة.

 ومثال أوروبا جاهز دائما ليقدِّم الدليل على عكسيّة المعادلة السياسيّة الإقتصاديّة. فكلّ دولة أوروبيّة غطستْ في السياسة، سواء أكانت استعمارا أم حروبا دوريّة، تعطّلت فيها الدورة الإقتصاديّة وتأزمتْ أوضاعها، حتى ولو بدت، في بعض المراحل، على شيء من القوّة. وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا، وبلجيكا بعض الشيء، تقدِّم دليلا على صحّة هذه المعادلة. أمّا الدول الأوروبيّة التي لم تغطس في مستنقع السياسة والحروب الناجمة عنها، فإن اقتصادياتها ظلّت معافاة ومزدهرة نسبيّا. وفنلندا والسويد والنروج، وهولندا إلى حدّ ما، تؤكد هذه الحقيقة.

 

 إذًا، المعادلة واضحة للغاية: في كلّ مرّة تطغى السياسة على توجهات الدولة يتراجع الإقتصاد. وفي كلّ مرّة ترتضي الدولة إدارة ظهرها للسياسة ومشتقاتها، يكون الإقتصاد فيها، مبدئيّا، في منأى عن التقلبات والعواصف.

 بطبيعة الحال، هذه المعادلة ليست جامدة وعابرة لكلّ الظروف. فثمّة دول مضطرّة لأن تتّخذ مواقف سياسيّة حادّة دفاعا عن نفسها، ولمناهضة إحتلال ما تتعرّض له. لكن ثمّة موازين، حتى في مثل هذه الحالات، لا بدّ من أخذها في عين الاعتبار. فلا يمكن إهمال الإقتصادأيّا كانت الضغوط السياسيّة، وإلا فإنّ الضعف الإقتصادي قد يصبح بوابة حتميّة للعبور إلى الهزيمة السياسيّة!

*****

وسْط كلّ هذه المعطيات، ثمّة سؤال بدهي يفرض نفسه تلقائيّا: أين العالم العربي من هذه المعادلة البالغة الدقّة والحساسيّة؟

 

 في كتابه “ومضات على الطريق”، وبعد أن يضع خطّة تأسيسيّة لنهضة إقتصاديّة عربيّة شاملة، يقول المفكّر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي، إن التطورات الإقتصاديّة المتلاحقة في عصرنا الحاضر قد” فرضت أسلوبا جديدا في صراع البقاء، وهو أشرس وأخطر أنواع الصراع في الحاضر والمستقبل، لأن هذا الصراع سيكون متمثّلا في صدام قدرات إقتصاديّة ذات إمكانيات تخطيطيّة وأساليب تسويقيّة…”.

 إنه فعلا صراع البقاء الذي أصبحت مواجهته حتميّة لا مفرّ منها. لكن يبدو، ومع الأسف الشديد، أننا حتّى الآن مشغولون عنه في شكليات، أقل أهميّة بالتأكيد، تجعلنا نصارع بعضنا ونهدر طاقاتنا في تدمير ذاتي يكاد يكون غير مسبوق في تاريخ الشعوب!

 

 السياسة شأن أساسي، لاسيما في ظروفنا العربيّة المعروفة. ولا يمكننا أن نستمرّ في دفن رؤوسنا في الرمال لأن الصيّادين، لآ بل القنّاصين، يلاحقون النعامة وينالون منها ، حتّى ولو ظنّت أنها في مأمن منهم. لكن علينا أن نبقى متيقّظين إلى المعادلة البالغة الدقّة: السياسة من دون إقتصاد تهلكة أكيدة. وأفضل الحلول البقاء بعيْنيْن مفتوحتيْن أبدا: واحدة على السياسة لندافع عن أرضنا وقِيَمنا، والثانية على الإقتصاد لكي نتمكّن من الإنتصار في معركة ” صراع البقاء ” الحتمي.

 لكن مشكلتنا، نحن العرب، أن عينيْنا الإثنتيْن مركّزتان على السياسة. أمّا العيْن التي يُفترَض أن تركّز على الإقتصاد فمُصابة، على ما يبدو، بعمى الإلوان. ولذا نحن على مانحن من تراجع وتردٍّ وخبط عشواء!

 *****

 ومَنْ لا يصدّق ، ما عليه إلا أن ينظر إلى ما آلتْ إليه الأمور في لبنان الذي بات معدمًا بعد أن كان واحة عمران وتألق، ذلك أن أشواك السياسة قد أكلتْ فيه كلّ أخضر ويابس!

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *