هل انتهت الحرب العالمية الثانية في أوروبا سنة ١٩٤٥؟

Views: 28

د. إيلي جرجي الياس

(كاتب وباحث استراتيجيّ وأستاذ جامعيّ)

 

*سلسلة مقالات عن الحروب العالمية والباردة – المقالة الأولى:

 

أكبر الحروب وأقساها وأعتاها وأكثرها عنفاً وتدميراً، في تاريخ الإنسانية، الحرب العالمية الثانية، انتهت في الساحات الأوروبية، رسمياً مطلع شهر أيّار ١٩٤٥، على مرحلتين: في ٧ أيّار استسلم الألمان في رامس، دون ضجة أو تغطية إعلامية، إكراماً لسطوة الزعيم السوفياتي جوزف ستالين، وفي ٩ أيارّ استسلم الألمان في برلين عاصمة الرايخ الثالث المدمّرة بالكامل، بحضور كبار قادة الحلفاء…. مخلّفةً على امتداد القارة العجوز الجريحة، نسبةً عالية جدّاً من الضحايا والجرحى والأسرى والمفقودين، ومناطق محروقة، واقتصاداً منهكاً، ومجالاً واسعاً من العذابات والآلام والأوجاع… ولكن هل انتهت الحرب العالمية الثانية، وقتذاك، في أوروبا؟ حتماً لا…

 

 

البحث عن تحليلٍ شامل لهذا السؤال – الإشكالية، ولو من خلال مقالة محدّدة أو أكثر من مقالة، يقضي بتصويب الفترة الزمنية، وهي الممتدّة تقريباً بين سنتي ١٩٤٥ و ١٩٥٥ أي ما يقارب عشر سنوات، على مدىً يتمايل بين النهاية المعلنة للحرب العالمية الثانية ١٩٣٩-١٩٤٥، وبدايات الحرب الباردة الأولى ١٩٤٧-١٩٩١… كما بتحديد المناطق الأوروبية قيد الدراسة، على ضوء التركيز على الاحداث العسكرية والأمنية والاستخبارية، أكثر من التبدلات والتغييرات السياسية الجيوستراتيجية…

 

وفي مطلع المقالة لا بدّ من الإشارة إلى أنّ آخر فرقة ألمانية نازية استسلمت في النروج في الساعات الأولى من صباح ٤ أيلول ١٩٤٥، أي بعد أربعة أشهر تقريبأ من استسلام القيادة الألمانية العليا في برلين… وهذه الفرقة هي فرقة هوديغن بقيادة الملازم ويلهلم ديغ، وهي التي كانت مكلّفة بإدارة محطة لرصد الأحوال الجوية في أرخبيل سفالبارد النروجي، بالقرب من القطب الشمالي. والمفارقة الغريبة في هذه الحادثة العجيبة، أنّ استسلام الفرقة جاء بعد يومين من استسلام اليابان…

أمّا آخر معركة في أوروبا، فهي معركة أودزاك العنيفة والضارية، نسبةً إلى البلدة الهادئة الواقعة بين نهري بوسنا وسافا شمال البوسنة والهرسك حالياً، وقد دارت خلال شهر أيّار ١٩٤٥، بين القوات اليوغسلافية التابعة للزعيم الشيوعيّ جوزف بروز تيتو، والقوات الكرواتية الاوستاشي الموالية للزعيم الفاشيّ أنتي بافليتش حليف الألمان والإيطاليين سابقاً، مخلّفةً نسبة كبيرة من الضحايا والدمار، وقد حسمها رجال تيتو بفضل استعمالهم سلاح الجوّ المستحدث… وبعد فرار بافليتش إلى أميركا الجنوبية، وهروب معظم قادة الاوستاشي… نفّذت القيادة اليوغسلافية العليا خطّة سيطرة على كرواتيا ١٩٤٥-١٩٤٦، لم تخل من المواجهات الأمنية والاستخبارية الخطيرة، إلّا أنّ كرواتيا خضعت بعد ذلك لإمرة قيادة تيتو بالكامل…

 

وبالإضافة إلى كرواتيا، فثمّة منطقة ظلّت ساخنة حتّى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية!! هي أوكرانيا، حيث استمرّت الثورة الشعبية على شكل مواجهات سرية وغامضة مع الجيش الأحمر، على مدى النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين، وصولاً إلى خمسينات هذا القرن… وقد أمّن الزعيم الأوكرانيّ ستيبان بانديرا – الذي اختلف ثمّ تحالف سابقاً مع الاحتلال الألمانيّ – التغطية السياسية والتواصل الدوليّ لهذه الثورة المتواصلة، متنقلاً بعد الحرب بهويّات مستعارة في مناطق أوروبية غربية عديدة!! استطاع السوفيات بالقوّة الأمنية والاستخبارية المطلقة، وبعض المفاوضات والإصلاحات، السيطرة على هذه الثورة – التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة التاريخية الموثّقة لأنّ تداعياتها مستمرّة حتّى يومنا الحاضر – كما تخلّصت الاستخبارات السوفياتية من بانديرا اغتيالاً في ١٥ تشرين الأول ١٩٥٩…

 

وماذا عن ألمانيا نفسها؟ ألمانيا المدمّرة بالكامل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا في أيّار ١٩٤٥، وسط معاناة الشعب اجتماعياً واقتصادياً… وقد باتت ألمانيا مقسّمةً إلى أربع مناطق احتلال: أميركية، سوفياتية، بريطانية، وفرنسية… يا لسخرية الأقدار: قبل سنة تماماً من نهاية الحرب كانت الجيوش الألمانية تحتلّ فرنسا!! تكلّم مؤرخون وصحفيون كثيرون عن تلك الأيام الألمانية الصعبة، لعلّ أبرزهم محلياً الصحفيان اللبنانيان العالميان إميل الخوري وكامل مروّة، اللذان عاينا الأحداث وقتذاك عن كثب… لقد برزت من داخل الأراضي المدمّرة والبيوت المخرّبة، جمعية الذئاب، عبارةً عن جنودٍ ألمان شباب تحمّلوا أوزار الحرب ومآسيها على الجبهات، وعادوا إلى بلادهم ليجدوا الدمار الشامل والكامل وأجساد عائلاتهم تحت التراب… فانتفضوا على الواقع الأليم، وانتظموا ضمن منطق الذئاب المنفردة، ليلحقوا بالمحتلّين خسائر بشرية ومادية، وخصوصاً خلال الليل… وقد استعمل السوفيات القوّة المفرطة لقمع الذئاب، بينما كانت خطة الأميركيين أكثر جدوى على المدى الطويل، لاستيعاب الشعب الألمانيّ، عبر إيجاد حلولٍ اقتصادية فعّالة، خصوصاً عبر مشروع مارشال لاحقاً…

(https://utopiamanagement.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *