سبيل ماء
د. جان توما
راح سبيل الماء الذي كان يروي عطش حكايات طفولتنا. كان السبيل هنا يلتقي الأفواه العطشى الراجعة من جزر الميناء البحريّة. (https://teamdermatologymd.com/) لم يميّز السبيل هنا بين فمّ مذهبيّ، أو فمّ متكوّر، أو فم متكرّش. كانت أيامنا مائية المتعرّجات والأزقة، وكان الماء يلطّف حدّة الحرّ قبل أن يدبّ الجفاف، ويعمّ اليباب، وتتباعد الوجوه في أزمنة الغياب.
لم تستقم حياة البحارة على أرصفة الميناء دون سبل الماء المنتشرة بسخاء؛ هنا وعند بوّابة خان التماثيلي، وعند مشارف ترب الإسلام، وفي وسط ترب المسيحيين وغيرها.
يومها كان الماء واحدًا في البلد، وأحياء السقايين مفتوحة لكلّ عطشان أو ظمآن، كإبريق القرى المرصوف عند مداخل البيوت، إلى جانب الجرّة الفخاريّة يقدّم القطرة المنعشة لمن جفّ حلقه وتعب قلبه.
سقط سبيل الماء في ساحات المدن البحريّة كسقوط بساطة أحلامنا الصغيرة. من جفّف مجاري الحياة؟ ومن أغلق العيون السكرى بجمالات ما مضى؟
كانت الحارات ملاعبنا قبل أن تجتاحها السيارات، وكانت مصطبات البيوت القرميديّة مدارجنا، قبل أن يصادر الباطون كلّ زاوية فيها ويطيح بشيطناتنا وباسمائنا على حجارة البيوت الرمليّة، وجذوع أشجار حدائقها وأسوارها المتهالكة المرتاحة من تعب السنين.
كيف سقطت دمعات جدران تلك السبل المائية؟ كيف سكتت أصوات غرغرة المياه المتساقطة في جرن مصبّاتها، فيما كنا ننال معمودية الطفولة يوم كنا نغسل أيدينا ووجوهنا بماء يتطاير مجانًا، فرحًا قبل أن يصبح أسير القناني البلاستيكيّة والعبوات الصمّاء.
أعيدوا مائية السبل لننتعش بحيوية الحياة، وبرطوبة جمال ما كان في مواجهة عطش وظمأ ما نحن فيه.