سجلوا عندكم

عودة إلى الرومانسية مع قصة “رحلت الطفلة” لناديا ظافر شعبان

Views: 1113

وفيق غريزي

قصة “آلام فرتر” The Sorrows of Young Werther للفيلسوف والشاعر الالماني”غوته” شرّعت ابواب الرومانسية في المانيا في القرن التاسع عشر، وقصة “رحلت الطفلة” للروائية والباحثة ناديا ظافر شعبان، تحاول احياء الرومانسية في بلادنا العربية، في عصر اسدلنا فيه على الكائنات اقنعة. حجبت الحقائق عن اعين الناس، وخلقت شيئا من البعد عن الجمال الانساني الذي كان يشع ببراءة وحرية وسكون في زمن مضى، وقضت بالتالي على التنعم الهادىء بروائع الوجود، وبنعمة الحب، مما ادى الى سيطرة نوع من المادية، ابعدت البشر عن المثل العليا ودفعت انسان هذا العصر الى الانحراف والاغتراب عن جوهره الانساني.

الحقيقة الانسانية

الروح في الحالة الرومانسية يدرك ان حقيقته لا تتمثل في الغوص في الجسمانية، بل على العكس، فهو لا يعي حقيقته الا بانسحابه من الخارج ليرتد الى ذاته، والا بعزوفه عن ماديات العالم الخارجي، الذي لن يجد فيه عناصر وجود مطابق. وهذا ”الخارج” لا يعني عدم الاندماج بالاخر (المرأة) بالنسبة الى الرجل و”الرجل”  بالنسبة الى المرأة، لأن بهذا الاندماج تكتمل الحقيقة الانسانية لكل منهما.

 

الدم العربي في عروق الاسبان

احداث رواية “رحلت الطفلة” تجري في اسبانيا، بين طبيب اسباني وامرأة لبنانية، لم تكن عفوية، انما اختارت الكاتبة ناديا ظافر شعبان هذا المكان للدلالة على ان الدم العربي يجري في عروق الاسبان، والطبيعة هناك موشومة بوشم عربي، من القدم حتى العصر الراهن، فتقول بطلة الرواية: ”عندما تقع عيني في مكان ما من اسبانيا على احرف عربية، يبدو لي انني ارتبط فجأة بجذوري واقف مواجهة لتاريخي”. الطبيب الاسباني رامون غارثيا كان في مجتمعه البرجوازي المتكالب على المادة، قد تعوّد حياة الرقابة منذ سنين طويلة، رقابة كان يجب ان يسميها هدوءًا،حتى اصبحت حياته فراغا وعدما وكأنه ينتحر، بالرغم من انه متزوج وأب لطفلين، فان حياته خواء بخواء. ولكن شاءت الاقدار ان تدخل عيادته المرأة اللبنانية، فكانت اطلالتها على حياته الباردة تشبه الاعصار، تشبه اعصارا عجيبا آتيا من الشرق، ايقظه هديره من بعيد، وغيّر معالم كل شيء في ايامه، حين مرّ على مقربة من دنياه، فشعر “بان حنانا حارا ينبت فجاً في عينيه. ولكنه خاف ان يطلق اسما علىذاك الشعور الذي ولد فجأة في صدره، وفرض وجوده بقوة في عالمه، وظل يقاومه بلا جدوى”.

ان هذا الشعور بمثابة الارتقاء، ارتقاء الروح نحو ذاته، من العالم (الخارج) الى الداخل، هو الارتقاء الذي بفضله يجد في ذاته الموضوعية التي كان مضطرا الى طلبها في العالم الحسي -الخارجي، والذي بفضله يكتسب الوعي والشعور باتحاده مع الذات الاخرى. والمحافظة على مشاعر الحب، على المرء ان يحذر من التشويش الذي يغيّب هذه المشاعر ويغوّرها، وذلك يعود الى اسباب وعوامل خارجية كثيرة، بوسعها اذا عظم شأنها ان تصل بالانسان الى حد تدميره وتمزيقه، وتحويله الى انسان صنمي، مستلب فتسبب له اعظم الالام منذ اللحظة الأولى، بدأت تحاك قصة حب غريبة عن عالم التكنولوجيا الذي شيّء الانسان وجعل منه رقما، او الة دون احاسيس ومشاعر. وبدأ الحب ينقذ الاثنين من براثن العدم”ليعطي معنى ومبررا لوجودهما، انه يعيد لهما فرحا افتقداه، ويجعلهما يفرحان بطفولة بكل ما يحيط بهما، يعيدهما اطفالا.

الرابط الروحي المقدس

ثمة رابط جمع بين روحيهما، فالاثنان عانا من ظروف تاريخية متشابهة، فالدكتور غارثيا، عاش مآسي الحرب الاهلية في بلاده، وشاهد بأم العين الموت والقتل، الرعب والجوع، المرض والبرد، الظلم والغدر، والدمار الرهيب، والبيوت المحترقة، والاطفال اليتامى والنساء الثكالى، والمرأة اللبنانية التي هربت من مثل هذه الحرب، حيث الموت والدمار والدماء، فحملت الى منفاها جروحات الوطن النازفة، وما ان رأت الدكتور غارثيا حتى شعرت بأنه من بين جميع الناس (كان) قادرا على ان يردم بكلماته هوة العدم في اعماقها، وبالمقابل فهو معها عرف الشوق والانتظار، واطلّ “على تخوم عالم غريب الجمال” وعرف معنى ان يبقى المرء على سجيته برفقة انسان. فهذا الحب دمغ “كل ما في العالم بطابع الحنان العميق، فشق الفرح بالوجود لنفسه طريقا وسط جمود حياته ورتابتها، واصبح لكل شيء في العالم قيمة ومعنى، واكتسب كل شيء حوله جمالا جديدا، ترتاح اليه عيناه، وتسعدان لرؤيته”. ولكن بالرغم من ارتباطهما الروحي فمنذ البداية كانت طريقيهما متوازيتان: “سريعا، وابتعدنا عن بعضنا بعضا”، فكان مرورها العابر في حياته قد “دمغ جلده بطابعها الخاص، فبقي وشمها على جلده واضحا، لا يمكن ان تغيًر صورته السنون”، فغابت عن سمائه وتركته “يجتر ذكرياته ويجتر الصمت”.

ان رواية “رحلت الطفلة” تؤكد ان الانسان بحاجة اكثر من اي زمن مضى الى استعادة كينونته الانسانية، وتحقيق كل اشباعاتها الروحية والوجدانية من رتابة الحياة المعاصرة.….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *