سجلوا عندكم

نديم برباري والزَّمنُ الجَميل

Views: 105

 الدكتور جورج شبلي

 

وَجهٌ رياديٌّ في الإنشاد، تأصَّلَ في صوتِهِ النّشاطُ الموسيقيُّ بِقَوالبِهِ الجاذِبةِ التي سكبَها في إطارٍ يجمعُ بين تَوفِيَةِ النَّغَمِ حقَّهُ في مواقعِ النَّبرات، وبين إحساسٍ مطبوعٍ بالموهبةِ يرتفعُ بالغناءِ الى مَصافِ الإتقان.

من الطّبيعيّ أن يبدأَ الفنّانُ رسالتَه بالتَّقليد، أو بالتأثّرِ الذي يفتحُ له المنافذَ لبلوغِ ارتقاءٍ يكرِّمُهُ النّاسُ بالحَماس. والتّقليدُ نُبوغٌ يعطي إرثَ الكِبارِ أُفُقاً، ورواجاً، لا يقدرُ عليهما إلّا صاحبُ الموهبةِ الفذَّة. وبالتَّقليدِ الباهِر، قنَّنَ نديم برباري للإبداعِ في غَزوَةِ نتاجِهِ الغنائيّ، ليؤسّسَ، له، شخصيةً خاصةً تعاطَت مع التشكيلاتِ الغنائيّةِ المتنوّعةِ بمهارةٍ مُلفِتَة، وصمَّمَت لنفسِها خطّاً أدائيّاً مميّزاً احتلَّت فيه الأُصولُ مكانَ الصّدارة. 

نديم برباري المحترِفُ بِتَصَوّف، استهلَّ ندواتِه بالتَّرتيلِ الذي هو أكملُ الأمثلةِ التي تجمعُ بين الخشوعِ والإجادة، وهو لم يَمِلْ عن أبجديّاتِهِ، وأَتقنَ صنوفَهُ التي بوَّأَتهُ صدارتَها. والإبتهالُ، في حقيقتِهِ، اختبارٌ صعبٌ يعصى على العاديّين، لا تنفعُ مع أحكامِهِ وساطةٌ، ولا دَعوى استئناف، فالذي يُنَسِّبُهُ التّرتيلُ إليه، يكونُ مِمَّن اكتملَت محاسنُ الصوتِ عندَه، والمهارة، وأصبحَ قادراً على تأديةِ طُبوعِ الغناءِ، جميعِها. وهذه بالذات حالُ نديم برباري الآتي من هياكلَ بيزنطيّةِ الآلهة، حيثُ البخّورُ تَرتيل.

بين نديم برباري والنَّغمةِ عشرةٌ حميمةٌ، وأمكنةُ أنس، فهي آخَت فيه الحَواس، وقد حافظَ نديم على مكتسباتِها ولازمها على مساحةِ غنائِه، وطبَّقَها في تلاواتِهِ الأدائيّة، بسلاسةٍ وإشباعِ وزنٍ، ورشاقةٍ إنشاديّة، ما سرَّعَ علوقَها بالنّفس. وإذا كان الإنشادُ يريدُ ما يَحجُّ عليهِ من الجَمال، فما له أضًلَحُ من أداءِ نديم برباري.

لم يلبَثْ نديم برباري أن تَبَيَّنَ، منذ صِباه، أنّه للفَنّ، تمثيلاً وغناءً. وعندما قَدمَ الى مسرحِ الناس، برقَّتِهِ، مُستَقِلّاً مَتنَ الغناءِ، وصلَ الى  مخابئِ الدُرِّ في بَحرِهِ، هذه التي لا  تُفتَحُ إلّا لِمَن يُجيدُ جميلَ الصَّيد، فانتهجَ الإيقاعاتِ الرّزينةَ، متنقِّلاً بين أجزاءِ الجُمَلِ الموسيقيّةِ بِقدرةٍ صوتيّةٍ تُبرِزُ جماليّةَ اللَّحنِ المُؤَدّى. وهكذا، خلقَ نديم، وببراعة، جوّاً من التَّعاضدِ بين النَّغمِ والوزنِ والصّوت، ما حوَّلَ المغنى زَهواً يروقُ التجوّلُ في أرجائِه، ويَحملُ على تَشَهّي المتابعة.

لقد استطاعَ نديم برباري أن يضعَ السّامعَ في حالةِ تَذَوّقٍ ومتعَة، فاستمالَهُ بمهاراتٍ صوتيّةٍ عاليةِ المستوى، جاءَت جذّابةً بطبيعتِها العفويّةِ السخيّةِ الإبداع، وبفَيضِ حيويّتِها في كَشفِ ألوانِ الإحساس، وببهائِها في تنوّعِها، كمِثلِ مائدةٍ تختلفُ فيها أصنافُ الطُّعومِ لاختلافِ شَهَواتِ الآكِلين.

إنّ الغناءَ ليس فَرعاً من فروعِ الفنّ، بِقَدْرِ ما يشكِّلُ منه المركز. لذا، التمسَ نديم برباري المغنى في الحياكة، فحصلَ له بجدٍّ صاعد، وهو لم يأخذْهُ إخذَةَ خِلسٍ، أو اشتراهُ في عامِ المَجاعة. وهو، وإِنْ كانَ مُقِلّاً، فالإبداعُ ضَيفُهُ الدّائم، والإجادةُ أُفُقُهُ المُبتَغى، ولباقتُهُ في اختيارِ الرَّشيقِ من الأغاني، هي رسالتُهُ الفنيّةُ بالذّات. من هنا، كان نديم ضَنيناً على إيفاءِ موهبتِهِ مآثرَها، عمَّدَتهُ جوابَ ندائِها للإرتقاء، وحبَّبَت إليهِ جاهَها فغدَت، معه، متعةً لم يعكّرْها ميلٌ الى الهبوطِ في قيمةِ المَغنى، شِعراً، ولَحناً، وأداء.

كان نديم برباري ملتَهبَ الحضورِ في مسرحيّاتِ الزّمنِ الجميل، بوَصلاتٍ نَشِطَةٍ، ناصعةِ اللَّفتة، حاشدةِ الإرتياحِ والتَكَيّفِ مع أنماطِ التّمثيلِ المتنوِّعة، إن في الجامعةِ الأميركيّة، حيثُ كانت بداياتُه، وإن في بيتِ الدّين، وإن في بعلبكّ، أو على خشباتِ مسرحِ المَشاهدِ  “الشانسونييه”، وهناك، كان يجمعُ الأداءَين معاً، التّمثيلَ والغناء، بحِرَفيّةٍ ناجحة. وهو، في هذا المجال، جايلَ العمالقة، مثلَ الرّحابنةِ وفيروز، وصباح، ووديع الصّافي، وسواهم، وأقامَ في حواضرِهم، لكنَّ سلامةَ خُلقِهِ، لم تجعلْهُ ينشرُ على هيئتِهِ أجنحةَ الطّواويس.

الفنُّ، عندما يُصبحُ للتَّسويقِ، نسمعُهُ يَطلبُ الغَوثَ، ولا ينتبهُ إليهِ أحد. من هنا، كان الأَوفرَ حَظّاً في هذا الهُبوط، مَنْ حازَ المَظهرَ المُجَمَّلَ إصطناعيّاً، وقدرةَ الإِنفاقِ على النِّفاقِ الفنّي. (Ambien) لذا، لم يُنصَفْ أصحابُ القريحةِ، والموهبةِ، والأصالةِ، وخُتِمَ على بضاعتِهم  الوافرةِ القيمة، ليُرَوَّجَ للطَّنطَنةِ، وغرائبِ الإنتاجِ المُبتَذَل. إنّ الفنّانَ المُهَندَمَ والمجبولَ بالمَناقِبِ، والذي طافَ في صحنِ دارِ الفنِّ ولم يَعُدْ كاسِفَ المُحَيّا، من مثل نديم برباري وسواهُ، لا يَلمُّ إلّا غَلَّةَ ما طَرحَ من بُذورٍ، له، في أرضِ الفنِّ الطيّبة، لأنه لا يريدُ أن يعيشَ غريباً في جمهورِه.

نديم برباري مذهبُهُ المحبّةُ، والنّقاء، فإذا فتَّشْتَ في قلبِهِ، لن تَجِدَ سوى قلبِه، وهو آلَفُ خِلٍّ في سلاسةِ الطَّبعِ، ونقاءِ الرّوح، والعِشرةِ الطيّبة، لذا، كان لمُصادقتِهِ غيرُ طَعم. ونديم المَشحونُ بالوجدانيّةِ وسلاسةِ الطَّبع، ما اعتادَ إلّا لغةَ الرقّةِ، والصِّلَةُ التي تجمعُ بينهما هي صِلَةُ نَذرٍ، وقَسَم. لقد مارسَ نديم، بِغِيرةٍ، صيانةَ المَشاعرِ التي استهدَت الى بِساطِهِ، وساقَها بِنُبلٍ، وحَكَّمَ فيها الرويّةَ، كما حكَّمَ النَّغَمةَ الطيّبةَ الطَّعمةِ في ما أدّاه، لتأتيَ أغنياتُهُ، كما أخلاقُهُ ومسلكيّتُهُ، مطالعَ جميلةً وطيّبةَ الصِّيت.

نديم برباري الفَخورُ بمجايلتِهِ الكِبارَ في ضروبِ الغناءِ النّازِعِ الى الإمتاع، كان بينه وبين المغنى طَقسٌ عاطفيٌّ وكأنّ رِفقةَ صِبا تجمعُهما. إنّ العذوبةَ والصّفاءَ في رنَّةِ صوتِ نديم، خصوصاً في غناءٍ مباشِرٍ يخشاهُ كثيرون، جعلاهُ مشدوداً صوبَ الضّوء، وكأنّه خلطةُ جَمال، ما يدفعُ الى الإقرارِ، في درجةِ الموسيقى، بأنّه مُستَحِقٌّ، مُستَحِقٌّ، مُستَحِقّ. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *