فسيفساء لحقباتٍ تاريخيَّة مُبعثرة

Views: 54

لميا أ. و. الدويهي

تتشابك المُصادفات في حياتنا وتُبلغنا إلى استنتاجات وخلاصات بديهيَّة، إذا تمَّ جمعها، لا نحتاج إلى الكثير لفهمها…

أودُّ أن أُشاركَ القرَّاء ببعضِ المعلومات التاريخيَّة التي قد تجعلنا نُبدِّلُ بعضًا من وجهات النَّظر ونتأكد بأنَّه هناك دومًا ما يوحِّدُنا ويُقرِّبنا أكثر ممَّا يُفرِّقنا، وإنَّما المهم هو كيف ننظرُ إلى الأمور وتحديد إذا ما كنَّا نسعى من خلالها للتَّباعد أم للتَّقارب…

يُخبرُ التَّقليدُ الكَنَسيّ بأنَّ أوَّل كاتب أيقونات هو الإنجيلي لوقا اليونانيّ والذي كان طبيبًا ورفيقًا للقدِّيس بولس وقد كان أوَّل مَن نَقلَ وجهَ مريمَ العذراء رَسمًا، ومنها استوحى عبر التَّاريخ باقي كُتَّاب الأيقونات، أيقونات والدة الإله… ولقد استعملتُ كلمةَ «نقل» لأنَّ الأيقونةَ تُكتَب ولا تُرسَم، لماذا؟ لأنَّ كاتب الأيقونة ينقلُ نُصوصًا من الإنجيل وإنَّما بالألوان وهي كانت حاجة لدى المسيحيِّين الأوائل لدحضِ الهرطقات التي كانت تطال جوهر المسيحيَّة، وحين دَعَتِ الحاجة لتَرسيخِ التعاليم في نفوسِ المؤمنين والمُهتدين إلى الدين المسيحي والذين بأغلبيَّتهم كانوا أُميِّين، كان لا بُدَّ من إيجادِ وسيلة فعَّالة تجعل المؤمن يتذكَّر تلك التعاليم ويلتزمُ بها… فكان الفنّ هو الجواب لهذا المطلب، لأنَّ الصُّور أو الرُّسومات تبقى عالقة في الذِّهن وتُساعدُ على تذكُّر المعلومات وحفظها، ولن أدخلَ هنا بمدلولات الأيقونة اللاهوتيَّة ولا طريقة كتابتها ولا معانيها ولا طريقة تطوُّرها حتَّى بلوغها رُتبة «العقيدة في الكنيسة الأرثوذوكسيَّة»…

ما أودُّ تسليط الضَّوء عليه هو أنَّه، عندما بدأت كتابة الأيقونة، لم تكُن الكنيسة مُنقسِمة، بل كانَت كنيسة واحدة جامعة ومُستقيمة ويُقال بأنَّ أوَّلَ معالمها قد ظهرت في دياميس روما حيثُ كان المسيحيُّون الأوائل يختبئون لمُمارسة طقوسهم وعباداتهم، وطبعًا، لم يكن من الممكن التَّركيز إن على التِّقنيات وإن على أُصول الكتابة الأيقونيَّة في حينه، بسبب الاضطهاد الذي كان يُعاني منه المسيحيُّون، ولم تبدأ بالتطُّور إلَّا بعد سُقوط الإمبراطوريَّة الرومانيَّة والتي يُحدِّد المؤرِّخون تاريخ سقوطها سنة ٤٧٦ م. وبدء الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة والتي دامَت حتى العام ١٤٥٣ م. تاريخ سُقوطها على يدِ الفاتح مُحمَّد الثاني، وقد هرب كل فنَّانيها ومُثقَّفيها إلى أوروبا وهم مَن ساهموا بإطلاق عصر النَّهضة في أوروبا. (kambioeyewear)

إذا الأمبراطوريَّة البيزنطيَّة قد عرفتِ الازدهار والتطوُّر مدَّة ألف عام، وهذا الازدهار والتطُّور قد تبلور في مُختلفِ المجالات وعلى جميعِ الأصعدة وتحديدًا كتابة الأيقونة.

أيقونة القديس يوحنا الدمشقي

 

لمَن لا يعرف، قد تمَّ مُحاربة الأيقونة من بعض ملوك بيزنطيا الذين اعتبروا بأنَّ تكريمها هو عبادة وثنيَّة وقد تمَّ تحطيمَ الكثير منها وتحريمَ كتابتها في جميعِ أنحاءِ الإمبراطوريَّة لمدَّةٍ ناهزت المئة عام، وقد برز من بين المُدافعينَ عن الأيقونة وزيرًا مَسيحيًّا للخليفة الأموي في بلاد الشام يُدعى مَنصور، عُرِف في ما بعد بالقدِّيس يوحنَّا الدِّمشقي، ولا مجال هنا لِسردِ تفاصيل استلامه التوزير بعد والده أو كيف أصبح لاحقًا راهبًا ثمَّ قدِّيسًا، ولكن يُجدرُ الذكر بأنَّ دفاعهُ عن الأيقونة قد كلَّفهُ قطع يده والتي أعادتها له العذراء بطريقةٍ عجائبيّة فطلب إضافة يدٍ ثالثة على أيقونة والدة الإله تخليدًا لهذه المُعجزة. وقد انتهت هذه الحرب حين أعلنَ مجمع نيقيا المسكوني السابع في نيسان ٧٨٧ م. بمرسوم، وجوب تكريم الأيقونات ورفعها على المذابح.

في فترة الحرب هذه قاطع الموارنة في لبنان البيزنطيِّين إعتراضًا على تحطيمِ الأيقونات وهم كانوا قد بَنوا أوَّل كنيسة مارونيَّة لهم في الشرق سنة ٧٤٩م. وهي كنيسة مار ماما في إهدن – ولا تزال قائمة حتَّى يومنا هذا- أوَّل ملاحظة أُسلِّطُ عليها الضؤ هنا: طالما أنَّ الوثنيِّين في لبنان قد اهتدوا إلى المسيحيَّة في أيَّام مار سمعان العامودي أي منذ بداية القرن الخامس، لمَ انتظروا حتَّى منتصف القرن الثامن لتشييد أوَّل كنيسة لهم؟…

أظنُّ بأنَّ السبب واضح، فإنَّ الموارنة لطالما عانوا من الاضطهاد ولطالما اختبأوا في «نخاريب الصُّخور» للحفاظ على أرواحِ عيلهم وناسهم، فقد عانى اللبنانيُّون من حروب الآخرين على أرضهم منذ بزوغ إسم لبنان في فجرِ التاريخ، وهذا المشهد سيتكرَّرُ في قرون لاحقة، في عهد المماليك في منتصف القرن الثالث عشر (١٢٦٠م.) والذين دامت سيطرتهم على بلادنا حتَّى بداية القرن السادس عشر حين خسروا أمام العثمانيين في معركة مرج دابق (١٥١٦م.) والذين، هم بدورهم ستستمرُّ سطوتهم وحكمهم حتَّى نهاية الحرب العالميَّة الأولى عام ١٩١٨ ما سيجعل لبنان تقريبًا طوال سبع أو ثمان قرون متواصلة، يُعاني من اضطهادات وحروب على أرضه وانقسامات وتجزئة ومُعاناة وكأنَّها صبغةٌ دُبغَ بها منذُ لحظةِ التَّكوين… أذكرُ هذه المعلومات التاريخيَّة للمقارنة ما بين إمبراطوريَّة بقيت صامدة في التاريخ مدَّة ألف عام ولم تنفكّ تزدهر وتتطوَّر وبلد صغير عانى من حروبِ الآخرين على أرضه واختلفوا عليه… ولا يزال حتَّى يومنا هذا يُعاني من مدٍّ وجزرٍ في صراعاتٍ مختلفة لا تنتهي، فكان عصيًّا عليهِ في مراحل عديدة أن يُطوِّرَ فنونَه أو بالأحرى أن يواصلَ هذا التطوُّر…  فكان من البديهي أن يحصلَ بترٌ في مراحلِ تطوُّره… هنا لا بدَّ من التوقُّف عند الازدهار الثقافي والفنِّي الذي حقَّقه لبنان في عهد الأمير فخر الدين في القرن السابع عشر والذي جلبَ الإرساليَّات الأوروبيَّة إلى لبنان والتي أدخلت معها ثقافتها وفنونها الكنسيَّة والتي نعرفها لأنها لا تزال إلى يومنا هذا تُزيِّنُ كنائسنا المارونيَّة…

الشِّقاق في الكنيسة قد حصل في بداية الألفيَّة الثانية وكانت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة لا تزال قائمة…

الكنيسة المارونيّة توقَّفت لقرون عن كتابة الأيقونة، لذا بقيت مراحل كتابتها عالقة في الزَّمن ولم تتطوَّر كما الحال لدى الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة… ولكونِ هذه الإمبراطوريَّة، بعد إنشقاق الكنيسة قد أصبحت أرثوذوكسيَّة وهي لم تتوقَّف عن كتابة الأيقونة لمدَّةٍ تزيدُ عن الألف عام قبل انهيارها، طبعًا ما عدا في فترة الحرب التي ذكرتها آنفًا، إذا كان من البديهي أن تُصبحَ الأيقونة بنظرِالكثيرين فقط أيقونة أُرثوذوكسيَّة، مُتناسينَ بأنَّ الكنيسة كانت واحدة لألف عام سبق وبأنَّ الأيقونة كانت واحدة في المنطقة وتختلف من مدرسة لأخرى ومنطقة وأخرى…

في بيزنطيا تطوَّرت واستمرَّت، في ديارنا تعثَّرت وتوقَّفت، وحلَّت مكانها لوحاتٌ أوروبيَّة، لا أنكرُ جمالها ولا قيمتها التاريخيَّة ولكنَّها ليست من صلب تاريخنا، كما الأيقونة البيزنطيَّة التي انتشرت في مختلف مناطقنا سابقًا وعرفت في ديارنا بالأيقونة السريانيَّة وفي مصر بالأيقونة القبطيَّة وفي بلاد الشام بالأيقونة الحلبيّة…

أمام هذه المقابلة التاريخيَّة التي أتطرَّقُ إليها أودُّ لفتَ النَّظر إلى أنَّ المفارقات التاريخيّة التي حدثت في شرقنا وعدم الاستقرار والتغيير في الأنظمة وحروب الآخرين على أرضنا واحتلالها لقرون من قبل دولٍ عديدة بترت أجزاءً من تاريخنا ومن فنوننا ومن آثارنا، ثمَّ دخول فنون وثقافات جديدة، ولبنان كان منذ البدء مُعتادًا على دمجِ الفنونِ لاستخراج أخرى تُشبه هويَّته الخاصَّة والمتميِّزة، فكان من البديهي أن يتمَّ هذا الشرخ وأن تُنسبَ الأيقونة إلى فئة دون أخرى لأنَّ تاريخ هذه المنطقة، في تلك الحقبة، كان أكثر استقرارًا…

فبعد ربط هذه المعلومات ببعضها واختصار الكثير غيرها، لا أستطيع سوى القول، بأنَّه قد حان الوقت لعودة الأيقونة البيزنطيَّة إلى منزلها الماروني بعد قرونٍ من الانسلاخ وضياع معالم اختبأت وراء ستارٍ تمزَّقت أطرافه والتحفت بخيال تاريخٍ لا يُعادُ اكتماله إلَّا عند دمجِ معالمه في لوحةٍ تاريخيَّة واحدة تُظهرُ حقيقته وتُثبتُ واقعه…

 ٢٩ /١٢ /٢٠٢١

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *