دالمبير… عالم الطبيعة والمفكِّر الوضعي

Views: 74

وفيق غريزي

يعتبر جان لو رون دالمبير  Jean le Rond d’Alembert واحدًا من ابرز اعلام عصر التنوير الاوروبي، وركنًا اساسيًا في اصدار الموسوعة الى جانب ديدرو. ولا يسع المرء أن يحيط تمام الاحاطة بسيرورة نشوء فلسفة العلم الحديثة وتطورها، ما لم يقف جيدًا على مسيرة عالم الرياضيات والطبيعيات دالمبير وتحوّله مع الوقت الى فيلسوف الوضعية المبكرة، مدللا على عقل موسوعي وتفكير مستقيم حتى قال عنه جان فال: “لم يكن ثمة من هو مؤهل اكثر من دالمبير لرسم شجرة موسوعية لمعارفنا وتصنيف مع معجم عقلاني لعلومنا”. 

لما كان هذا المفكر يكاد يكون غائبا عن الجامعات والمكتبات العربية، شاء الدكتور عبد القادر بشته ان يقدم لنا لمحة موجزة عن هذا العالم والمفكر الفرنسي، وذلك من خلال كتابه:

 “دالمبير عالم الطبيعة والمفكر الوضعي”.

الفلسفة العلم 

برز دالمبير في مجال الرياضيات وعرف بابداعاته في ميدان المعادلات التفاضلية ذات المشتقات الجزئية، كما برع في ابداع العلم في مجالي الهيدرونياميك وعلم الفلك، اذ كتب عام 1744 مقالته عن توازن السوائل وحركتها، كما قدم عام 1747حلا تقريبيا لمسالة الاجسام الثلاثة المتعلقة بشذوذ حركات القمر وعدم انتظامها.

ويشير المؤلف إلى أن النقاد اهتموا بعلم دالمبير، وذكر في هذا الصدد كلا من دومينوف وتاتون. كما اهتم بدوره بالميكانيكا، وحاول كلا من دومينوف ورينيه تاتون تحديد موقع هذا العالم، مبرزين انه يمثِّل نموذجا لعلماء عصر التنوير. ويقول المؤلِّف: “يمكن البحث في علاقات الفلسفة بالعمل عند دالمبير. وهذه الدراسة ليست غائبة عن النقاد المهتمين بهذا المفكر الفرنسي، ونحن نجدها على كل حال راهنًا في اطروحتين مختلفتين، رغم ما بينهما من اتصال، ونقصد رسالتي كل من باتي ولورو”. 

يؤكد هذا المفكر منذ البداية على ضرورة ان تكون موضوعات الميكانيك بسيطة وعامة ومجردة حتى نضمن يقين هذا العلم ونتمكن من اختصار المبادىء التي يرتكز عليها. كذلك يلِّح دالمبير على ضرورة ان تكون موضوعات العلم وبراهينه واضحة وبديهية، وهو يبدي هكذا ارتباطًا شديدًا بمحتوى القاعدة الأولى من القواعد الديكارتية التي ترتبط عند ديكارت، وكذلك عند دالمبير، بالفكر الرياضي كما هو جلي في “خطاب المنهج” لديكارت. اما منهج الميكانيك بحسب دالمبير فقد ربط العقل بالتجربة، اذ يؤكد في بداية نصه في الميكانيك على أن الحقائق التجريبية تؤدي الى مجرد افتراضات، وهو يقول هذا للتقليل من قيمة الاعتماد على التجربة وحدها.

 

اصول فلسفية 

ينبهنا دالمبير منذ البداية إلى اهمية مؤلفه “اصول فلسفية”، وذلك خلافًا لما ذهبت إليه الآنسة لورو، ويحتوي هذا الكتاب بحسب تصريحات صاحبه، على ما صح من سائر العلوم والمعارف، وهويمثل اختزالا للخطاب التمهيدي للموسوعة حيث جرى عرض كل المعارف الانسانية، ويقصد دالمبير بصحيح العلوم مبادئها، أي منطلقاتها ومواضع الالتقاء بها. يقول الموًلف: “يجدر بنا التعليق على كتاب دالمبير هذا من زاوية اهتمامنا بالعلاقة بين الفلسفة والعلم عند هذا المفكر”. 

بدأ دالمبير حياته الفكرية بالعلم، وانتقل بعد ذلك الى الفكر الفلسفي، فكتب عام1741 “الخطاب التمهيدي للموسوعة” وفي عام 1759 “اصول فلسفية” الذي اردفه بايضاحات، واكد الموًلف: “انه من الملاحظ في هذا الصدد أن دالمبير يرفض النسقية الفلسفية التي مارسها مثلا في القرن الثامن عشر كل من هيوم وكانط”. والفكر الفلسفي الدالامبيري يعني فقط جملة التأملات التي تخص عموما فلسفة العلم ونظرية المعرفة والاخلاق والسياسة. 

إن حضور فلسفة العلم الدالامبيرية في الفكر الفلسفي الدالامبيري اللاحق أمر لا مجال للشك فيه، اذ أن دالمبير انطلق من مضمون علمي ارتبط بفلسفة علمية. وكان لفلسفة العلم هذه حضورها المؤكد في الفكر الفلسفي الدالامبيري، ولقد تمت بلورة عناصر هذه الابستمولوجيا والتعمق فيها فًي المرحلة الفلسفية، فاوضح هذا المفكر المنطلق الحسي، وعمم الاختزال الرياضي، واتم نقد الميتافيزيقا التقليدية بتأسيس ميتافيزيقا جديدة ايجابية. 

رائد الوضعية 

أدى التقاء دالمبير واوغست كونت على مستوى الاختزال الرياضي الديكارتي الى التقارب بينهما حول ضرورة البحث في المبادىء والأسس المتعالية على الجزئيات والخصوصيات، وهي ميزة اساسية للوضعية الكونتية، كما أن تزامن وجود الرجلين في ظل عقلية سائدة في عصر الانوار تقول برفض بحث الماهيات والعلل الغائية والاكتفاء بمعطيات العقل والحس مجتمعين، افرز علاقة وطيدة بينهما من ناحية ما يسميه كونت بالفكر الوضعي، الذي يمثل السمة الاساسية الثانية للفلسفة الوضعية. ويرى المؤلف أنه يتضح من هاتين النتيجتين أن دالمبير مهّد الطريق بصفة جديدة وجدية لميلاد الفلسفة الوضعية الكونتية. (247roofingsolutions.com) ولم تفت النقاد الاشارة الى علاقة دالمبير بوضعية كونت، فقد المح ميشيل باتي الى هذه الصلة على مستوى الامتداد الابستمولوجي عند الرجلين، وعلى صعيد اهتمامهما بتصنيف العلوم ورفضهما للفكر الميتافيزيقي. ويشير باتي الى أن فيرونيك لورو ذكرت أن الميتافيزيقا الدالمبيرية، باعتبارها تأملا في الوقائع الحسية، تجعل مؤلف الخطاب التمهيدي للموسوعة منفتحا على كونت. من ناحية أخرى، اعتنى النقّاد بتأثير فكر الانوار بصفة عامة في تكوين فلسفة العلم الكونتية. وقد اشارت لورو الى وجود ارهاصات اكيدة لقانون المراحل الثلاث الكونتي في عصر التنوير.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *