“مذكرات ماروني: (محمد) ميشال الغريّب”
زياد كاج
حين رأيت الدكتور (محمد) ميشال الغريّب يقف متظاهراً ومعترضاً على ارتفاع سعر صرف الدولار الإميركي وإنهيار الليرة اللبنانية عند تقاطع مقهى “الهورس شو( الكوستا سابقاً، ثم الروسا اليوم) وكنيسة الكبوشية في شارع الحمراء، شعرت بالحزن والتعاطف مع هذا الجار العصامي والمثقف والاستاذ الجامعي الذي وقف بين الناس حاملاً لوحة كرتونية مثبتة على خشبة اُلصقت عليها ليرات لبنانية قديمة متآكلة الى جانب شعارات كتبها بخط يده.
كان ذلك في يوم ماطر في أواسط الثمانينات. كان يسكن في بناية “السواح” القريبة من دار الطائفة الدرزية في فردان، ولطالما لمحته في حيّنا خلال وبعد الإجتياح الإسرائيلي للبلد وبيروت. اختار الدكتور الغريّب مكاناً استراتيجياً للتعبير عن رأيه وغضبه من الأوضاع الاقتصادية المتردية ( كانت تعتبر سخيفة مقارنة مع الأوضاع الحالية): تقاطع يؤدي الى المصرف المركزي شرقاً، والجامعة الأميركية شمالاً، وصخرة الروشة غرباً.
لم يكن الرجل انتحارياً بالمعنى المادي للكلمة، لكنه كان فعلاً بالمعنى الاجتماعي. كثر سخروا من حراكه في ذلك الزمن.
لم أكن أعرفه يومها حق معرفة، لكنني قرأت على وجهه تفاصيل وسمحات رجل عصامي نظيف الكف لم تطله سوسة فساد هذا البلد الملعون بآلاف ميكروبات الانحلال الإخلاقي والطائفي، والتي تُعتبر أخطر من الكورونا ومتحولاته ربما! أذكر أنني تعرفت على ابنه نضال من شلة الحي وفهمت أن الشاب لم يكن راضيًا أو غير منسجم مع خيارات أبيه السياسية، وحتى مع بعض تصرفاته القريبة من الأسلوب الغاندي في التعاطي بالشؤون العامة.
شاء القدر أن أعود وأتعرف على “غاندي لبنان” والمحامي العصامي (محمد) ميشال الغريّب من خلال كتابه ” مذكرات ماروني”، 1984 (إصدار خاص) الذي عثرت عليه في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. كان لقاء تعارف جميل ومميز. فأمضيت بصحبته سهرات جميلة أعادتني سنوات طويلة الى الوراء، الى زمن لم أكن قد ولدت فيه بعد.
يقول الغريّب في كتابه إنه ولد في بيروت في 24 تموز سنة 1931 وإن أبيه قد زور وثيقة ولادته طمعاً في استخدامه في العمل باكراً، وإن عائلته من أصول سورية وإن أمه، ماري طعمة، من مواليد المختارة في الشوف. لا يخفي الكاتب بخل أبيه الملفت والمبالغ فيه بسبب معايشته لأهوال مجاعة الحرب العالمية، وكيف أنه كان يتفنن في التوفير من استهلاك تنكة الزيت فيجبرهم على تناول وجبة كان يسميها “السماء والنجوم”( كانت عبارة عن صحن فيه ماء وملح وبضعة نقاط من الزيت يغمسون منه بالخبز)! ومن المهن الكثيرة التي برع فيها الأب كانت مهنة التصوير اليدوي. والويل لمن كانت لا تعجبه الرسمة ولا يدفع، فيكون مصيره التشهير. وبسبب هذه المهنة تحول الأب الى سمسار عرائس بين القرى الجبلية.
عانى الدكتور “محمد-ميشال الغريب” من ظلم الأب الذي كان يصب غضبه على زوجته ولا يتردد بضربها أمام الأولاد. حياته في جلها كانت كفاحًا ونضالاً وسباحة عكس التيار. (https://www.antasis.com/) حتى العلم نتشه بأسنانه وأظافره وتنقل بين ثماني مدارس. أحد أخوته، أنطون، انضم الى الحزب السوري القومي الاجتماعي (ص 27). قاطعه أخوه التاجر الغني بسبب ميوله السياسية القريبة من الزعيم كمال جنبلاط.
“ارتديت معطفًا لثلاث سنوات متتالية”، يقول واصفاً حالة الفقر التي عاشوها في السيوفي في الاشرفية.
قرر “غاندي لبنان” ترك بيت العائلة وهو في الرابعة عشرة من العمر. لم يعد يتحمل رؤية أمه تُصفع أمامه على يد زوج متجبر. راح يبحث عن عمل ويقرع الأبواب. عمل في مكتب ميشال فريج حيث تعلم الطبع على الآلة الكاتبة سراً. انتهى به الأمر في المكتب بصفعة تلتها استقالة. كما عمل لاحقاً في مكتب المحامي ادمون نعيم (حاكم مصرف لبنان لاحقاً). عصامية ميشال الغريّب أوصلته الى المحاماة والتدرج الى أن إفتتح مكتبه الخاص، فصال وجال ودافع عن المظلومين في العدلية. “العدالة المنقوصة” كتاب وضعه لاحقاً عن فساد المحاكم والرشوة فيه غرائب وعجائب العدل اللبناني في تلك الفترة .
سنة 1963 أسس “الحركة العلمانية الديمقراطية” مع الوزير كمال جنبلاط وتبنى مشروع إلغاء المذاهب عن الهوية. تزوج مدنياً في تركيا سنة 1965 من صديقته ران خير، وانخرط في العمل السياسي والاجتماعي. سكن في بيت متواضع في الدامور وترشح للانتخابات النيابية سنة 1972 (يتكرر اسم حليم الغفري كحليف للرئيس كميل شمعون). وعين لاحقاً مفوض التشريع في الحزب التقدمي الاشتراكي، ثم نال شهادة الدكتوراة من الجامعة اليسوعية سنة 1969 وتعرض لمعارضة طائفية اقطاعية بعد مساعدة الناس من جيبه الخاص. اضطر للزواج كنسياً وفق المذهب الماروني من زوجته للمرة الثانية برفقة أولادهما نضال وسناء! أسس “محمد-ميشال الغريّب” مجلس الشوف الثقافي، وبنى حديقة عامة وقاعة وسينما في الدامور، وأسس رابطة آل الغريّب، ودرّس في الجامعة اللبنانية وفي المدرسة الحربية في الفياضية.
كان شعاره ” عمول منيح وكبّ بالبحر”.
وفي البحر كان مصيره ومصير جل إنجازاته الدامورية! نجا من مذبحة الدامور في الحرب الأهلية بفضل مساعدة ضابط كان من تلامذته في المدرسة الحربية. من الباخرة في عرض البحر تأمل “غاندي لبنان” الدامور كلها تحترق ومعها جنى عمره ومكتبة امضى 30 سنة في بنائها بعد مقتل 50 دامورياً رداً على أحداث ومجزرة المسلخ الكرنتينا .
أسس “جبهة المسيحيين الوطنيين” في مؤتمر تأسيسي في دير مار شربل في الجية تحت شعار: “عروبة، اشتراكية، لا طائفية”. تلقى دعماً من أبو عمار فأطلق جريدة “الحقيقة”. ثم وقعت القطيعة مع “الختيار” بسبب انتقادات وُجهت له فتوقف الدعم. ثم يكشف الدكتور الغريّب معلومة أمنية خطيرة ..عُرض عليه إغتيال مدير إذاعة صوت لبنان، جوزيف الهاشم، بمسدس مزود بكاتم للصوت (ص 137). ويشير في جلسة له مع الشيخ عبد الأمير قبلان الذي بادره بصراحته المعهودة: “..الشيخ بيار بيمثلك شئت أم أبيت”(ص 137-138). ويكشف في كتابه أن عدم دخول حركته في الحركة الوطنية كان بسبب حقد السيد محسن ابراهيم عليه بسبب تأسيسه لمنظمة المسيحيين الديمقراطيين.
صدر قرار باغتياله صيف 1980، حسب قوله. وصله التحذير عبر منظمة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. صار يتنكر، وغير سكنه ولم يعد يغادر مكتبه الا نادراً. قمة المعاناة كانت خلال الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982. تُرك “غاندي لبنان” وحيداً. حتى ناطور المبنى قال له: “الروح عزيزة يا دكتور” بعد ان طلب منه إخفاء 6 بنادق كلاشينكوف. الطائرات الاسرائيلية المعادية كانت تلقي المناشير على بيروت لكسر روح المقاومة ومعنويات الناس. العائلة انتقلت الى الشرقية وهو انتقل الى مكتبه في عائشة بكار. بعد دخول العدو الإسرائيلي الى بيروت، لجأ الى مفتي الجمهورية الشهيد الشيخ حسن خالد الذي عرض عليه البقاء في دار الافتاء.
أصيب في آخر أيامه باليأس والقنوط. عرض املاكه في الدامور للبيع .وأوصى بدفنه في حرج بيروت وليس في مدافن العائلة في الدامور وكتب بأن يكون الوصي على تنفيذ الوصية المناضل كمال شاتيلا.
يبقى السؤال: لماذا تحول ميشال من المسيحية ودخل الاسلام؟ فصار اسمه محمد ميشال الغريب! وهل فعلها عن قناعة؟ أم بسبب ظروف إقامته في المنطقة الغربية خلال الحرب الأهلية؟ الجواب عند الرجل حيث لا معلومات دقيقة وعلمية عنه على الإنترنت.
“إسلامي عقلاني ؛ رحلة الإنتقال من المسيحية إلى الإسلام “، كتاب اُعيد نشره سنة 2019 عن دار الصفوة. وميشال الغريب مؤلفه توفي نهار الجمعة في 21 كانون الثاني سنة 2005 !!!
تقول مقدمة الناشر:
“ طبيعة الحياة البشرية تنتهي -على المستوى الدنيوي- بالموت والفناء، وطبيعي أن نحزن على من نفتقد، ولكن ليس كل من نفتقد يمر افتقاده مرور الكرام، بل هناك من تشعر بافتقاده في الكثير من المحطات الحياتية، ومن أولئك المرحوم الدكتور المحامي محمد ميشال الغريب.
هذا الشخص الذي عاش بطريقة مميزة، وتنقل في حياته في مواقع كثيرة، كان مسيحياً مارونياً، ثم اعتنق الإسلام على المذهب السني، وأخيراً تشيع، مما يعني ذلك أنه صاحب تجربة ليست سهلة، درس المسيحية، ثم درس الإسلام فاعتنقه، وهو رجل قانون، تمتع بثقافة قانونية ودينية وفكرية”…
ميشال الغريب أو محمد ميشال الغريب لا فرق … رحم الله جارنا الطيب والعصامي الذي رماه القدر في بيئة ليست بيئته فعاش كسمكة خارج بحرها…أسعد شدياق آخر..والبلد مسلخ والجذارين كثر.