لم يطلعِ الفجرُ تلكَ الصبيحة…
جان توما
كان يَرْمِقُني بنظراتٍ متسائلةٍ كلّما زِرْتُهُ صباحًا. كان عاجزًا عن الكلامِ، ولكنّه كان ناطقًا بصمتِه وضياعِه. كلّما جالَسْتُه كان يطرحُ بسكونِهِ ألفَ سؤالٍ وسؤالٍ، ولم أَكُنْ أَمْلِكُ جوابًا، بل ابتسامةً يقابِلُهَا بحركةٍ تساؤليّةٍ عَفَويّةٍ مِنْ راحَتَيْه.
نسي والدي الذي رَحَلَ في ٢٠ آذار من عام ٢٠١٠ أَنْ يُغْلِقَ الكتابَ الذي كانَ يَتَهَجَّأُ فيه، إذْ تَرَك َأبجديتَهُ تنعمُ في جعبتي بأحلامٍ لا تَنْضَبْ.
في آخرِ أيامِهِ كانَ لقائي بِهِ اليوميِّ الصباحيِّ الاعتياديِّ مُباركًا. كنتُ كُلَّما دَخَلْتُ مَجْلِسَهُ ابْتَسَمَ، فَأَشْعُرُ بالرضى لأنّي لَمْ أَكْسُرْ بِخَاطِرِهِ بإطالةِ فترةِ انتطارِهِ.
يتأملُني، أبحثُ في عينيه عن دفترِ طفولتي وشبابي، فأرى وَجْهَ أمّي، وقد رَحَلْتَ قبلَهُ عام ٢٠٠٦، يُطِلُّ منهما راضيًا مرضيًّا، إذ كانَتْ تحملُ هَمَّهُ دائمًا في حالِ سَبَقَتْهُ وَتَرَكَتُهُ وحيدًا.
لكنّ الأبناءَ سهروا عليه، فكان يشغلُ يَومَهُ مع أحدِ أبنائِهِ بحنوٍّ ، وكانَتْ إمرأةُ أحدِ أولادِهِ توافيه، بفرحٍ، ظهرَ كلّ يومٍ بالغداءِ الساخن، ويساعدُهُ البقيّةُ على تنقُّلِهِ، برويّة، بين منازلِ أبنائِهِ وأحفادِهِ.
كَثُرَتِ الوجوهُ ولكنّه كانَ يطلُبُ وجهًا واحدًا، ذاكَ الذي سبَقَهُ إلى الأقرب. اليومَ كلَّمَا زِرْتُهُمَا في مثواهما أشعرُ أنّ ما جَمَعَهُ اللهُ لا يفرِّقُهُ موتٌ، أو بُْعدٌ، أو ارتحال.
لم تَمُرّ سنواتٌ أربع ٌعلى رحيلِ الوالدةِ، إلّا وكانَ القُرْبُ مُوجعًا، والانحلالُ مُتعِبًا، ولما اتصلَ الوالدُ بالتسعين، اشتدَّ عليه مرض ألزهايمر، فلم يُمهله، بل تسلّلَ بحزمٍ مغلقًا عليه الأبواب، فلم يطلعِ الفجرُ تلك الصبيحة…