في الوداع المؤلم للأب مارون عطالله الأنطوني
د. أنطوان سيف
*انطلياس في 21 آذار 2022
التاريخُ المشذَّبُ يرتاحُ له البشر. فهو هكذا دليلُ سيطرتِهم الموهومةِ على الزمن الماضي الذي فلَتَ منهم. ينسى كثيرون الحالَ الذي كانت عليه بيئتُهم الإنسانيةُ الضيّقة، واستطراداً البيئةُ الأوسع، قبل وفودِ أبونا مارون إلى أبرشيَّتها ونزولِه بين أهلها، وما آلت إليه أحوالُها بعدذاك، وتباعاً. فحالما يَحطُّ رِحالَه، يستولد توّاً فيها مجموعاتٍ من شبابها، تحت أسماء مختلفة: نادٍ، هيئةُ أصدقاء، قدّاس شباب، لجنة، حركة… تتمحوَرُ كلُّها في إطار دير مار الياس. كأنه يُفيق في هذه البيئة خلايا نائمةً وطاقات إنسانية قابعة. لا يأبَه لمعوِّقاتٍ محتمَلةٍ قد تَنجمُ عن كثرتها، أو عن تنوٌّعِ منابِتِ أفرادِها الشبابِ ومشاربِهم. فهؤلاء جميعاً يجد لهم أسباباً كافيةً للانضواء فيها، وتحقيقِ تطلُّعاتهم في إطارها، وأهمُّها اللقاءُ الموسَّعُ نفسُه، بناسه وآفاقه، وما يستتبعه من تكَوُّنٍ لشخصيةٍ متجدِّدةٍ بقبول التنوُّعِ، والتكامُلِ بالآخرِ المختلِف بحيث لا يعود الاختلافُ من أولى مزاياه. من هذه المشاركة ” المفتعَلة” تنبثقُ في الجماعة الشابةِ اهتماماتٌ رعويةٌ مفاجئةٌ بأُمورٍ عامّة، تُترجَمُ تلقاءً حركةً مستدامةً من اجتماعاتٍ واتِّصالات ودعواتٍ وزياراتٍ وطَرْقِ أبوابٍ لا نَسبَ سابقاً لها في التآلفِ مع الشأن العام. والمهمُّ في ذلك أنَّه، في توليفِه للمتباعَدِ المبعثَر، وفي إيجادِه مكاناً مشترَكاً يتقاسَمُه برعايتِه كلُّ المتنافرين، بدَّدَ حظوظَ كلِّ منافَسَةٍ له خارجيَّةٍ محلِّيةٍ، المنافسَةِ التي بانت بذلك محدوديَّةُ فئويَّتِها إزاءَ اتِّساعِ شموليَّةِ رؤاه وتطلُّعاتِه. فهو يعرف بالحدسِ أنَّ العملَ وحدَه، متوَّجاً بإنجازاتٍ غيرِ مبهَمة، هو سرُّ ديمومةِ الجماعةِ العاملةِ ولُحمتِها. ويعرف أيضاً، ككلِّ المبدعين، أنّ الجديد، غيرَ المتداوَل، وغيرَ المفكَّرِ فيه، وغيرَ المتوقَّع، هو المشروعُ الجمعيُّ الأثيرُ الذي يُبقيها دوماً حدَثاً مميَّزاً لا يخبو وهجُه مع التكرار.
ميزةُ أبونا مارون، في كلِّ هذه الانجازات الانسانيةِ المتشعِّبة، هي الجرأةُ والإقدامُ والاقتحامُ والمغامرةُ في خرْقِ حدودٍ وتقاليدَ جامدةٍ كحواجزَ دهريَّة، مُتَّكِئاً على الإمكانات المتوفِّرة له، التي غالباً ما تكون قليلةً في البدء بقدْر الخميرةِ العجائبية، وعلى ثقتِه بقدرتِه على تحريكِ زملائه في المجموعة التي يبرعُ في توثيق عُراها المتنوِّعةِ من غيرِ ملل، غيرَ غافلٍ عن خصوصية أيِّ فردٍ فيها، يجمعُها عندما يعزُّ جمْعُها، بحنكته الحاسمة، القارصةِ غالباً، وغيرِ الجارحة …
عنيدٌ أبونا مارون. حازمٌ. سلطويٌّ، ككلِّ قائدٍ حقيقيٍّ يأبى الفشلَ والهزيمة. إلاّ أنَّه يدثِّرُ سلطويَّتَه برداءٍ من روحِه المرِحة المحبَّبة وملاحظاتِه الساخرةِ ممَّا يُزعجُه من المعوِّقات…
في نشأةِ “الحركة الثقافية-أنطلياس”، ومسيرتِها، وإنجازاتِها، كان أبونا مارون. وظلَّ فيها، بعد ابتعاده عنها كما تقتضي تقاليدُ الرهبانية الأنطونية التي مَحَضَتْ “الحركةَ” تباعاً رؤساءَ لها، رؤساءَ ديرِ مار الياس انطلياس، عزَّزوا، مع إخوةٍ آخرين لهم من الرهبان، هذه المسيرةَ التي باتت نموذجاً وطنياً روحياً واسعَ الأرجاء. مذذاك، لم ينِ أبونا مارون “يُصرِّفُ أفعالَ” “الحركةِ الثقافية” في أكثر من هيئةٍ وصقعٍ وحقل، رسولاً مسافراً لا يتعب، خارقاً الحدود الأرضية والتقليدية، في لبنان وخارجِه، تاركاً أينما حلَّ بصماتٍ متداخلةَ الأزمان والأمكنة والدلالات، لا تُمحى.
إنّه، فوق ألقابه العديدة، وصداقته الغالية، معلِّم كبيرٌ، لنا ولسوانا كثُر، من روَّادِ التغيير بالثقافة الوطنية الحرَّة المحرِّرة، كنّا نعتزُّ برفقتِه المستدامة.