“إنصاف التراث العربيّ” لفردريك معتوق

Views: 680

د. فادي دقناش*

يُعتبر “التراث العربيّ” من المُصطلحات الأكثر تداولاً بين أوساط النُّخب الثقافيّة مِن مفكّرين وباحثين ونهضويّين عرب، أقلّه منذ ما يقارب القرن تقريباً، حتّى أصبح اليوم من الموضوعات “الساخنة” السجاليّة التي تدور في الأروقة العلميّة والأكاديميّة العربيّة. والتراث العربيّ غدا حتّى يومنا هذا، مُنقسماً بين تيّارَيْن مُتناقضَيْن: الأوّل يرى فيه حنيناً وعشقاً أقرب إلى القداسة والتمجيد، فتَلَحَّف بدفئه إلى درجةِ تجميده وفق حرارة الماضي نفسها؛ فيما رأى الثاني ضرورةً في هدْمه والبناء على أنقاضه لعدم جدواه، لذلك وبناءً عليه لا بدَّ لنا كعرب (من وجهة نظرهم)، من الاقتداء بالنهج العقلانيّ الغربيّ بعيداً من العواطف والتعلُّق بقشور الماضي لنتمكَّن من اللّحاق بركب الحضارة، عوضاً عن تقديس الماضي المجيد، والذي يُشكِّل التراث أحد أركانه الحميميّة.

صحيحٌ أنَّ العقلانيّة هي نهجٌ حداثيّ بامتياز، ولكنْ، هل يفتقر التراث العربي أو بعضه لهذا النَّوع من العقلانيّة؟ وهل كانت العقلانيّةُ سمةً دائمة و”ماركة مُسجَّلة” تُميِّز الفكر الغربي الحداثي دون غيره؟ في كتابه “إنصاف التراث العربيّ” (الصادر حديثاً عن دائرة الثقافة والسياحة – مركز أبو ظبي للّغة العربيّة) يُشَكِّك الباحث فردريك معتوق في هذه المقولة ويَعتبر أنَّ التراث العربي كغيره يخضع لمبدأ النسبيّة الاجتماعيّة. فالتراث، أيّ تراث، يحتوي على الغالي والنفيس كما على البالي والرخيص. من هنا بدأت مهمّة الباحث بالتقميش والتفتيش داخل خبايا هذا التراث، رافعاً شِعار “إنصاف التراث العربي”، ولكنْ بالموازاة رافضاً مقولة التقديس والتمجيد والتجميد، ونابذاً مقولة الهدم والتدمير والتخريب.

ينطلق معتوق بدايةً من مجموعة من التساؤلات المشروعة التي تُشكِّل كلمة السرّ المفتاح لـ”مغارة كنز” بحثه، وهي تتمحور حول التراث وكيفيّة التعامل معه: فـ”ما هو التراث؟ وما هو تراثنا؟ وكيف تعاملنا معه؟ وكيف تعامَلَ الغربيُّ معه؟ مَن الذي أساء إلى هذا التراث؟ ومن أيّ باب ندخل إلى كنوزه، أمِنَ الماضي أم مِن الحاضر؟ كيف سنقرأه؟ هل مِن منظور الذين قاموا بإنتاجه، أم من منظورٍ ماضويّ يُعيد قراءته كيفيّاً، بما يتلاءم مع حنينٍ ضامر في أذهان أناس يحلمون بالعودة سحريّاً إلى أزمنةٍ زاهية مضت، سعياً منهم للهروب مِن حاضرٍ ركيك؟”، وأمام هذه التساؤلات يقف معتوق واثقاً من عبور المسلك العلمي السليم لحلّ هذه “الأحجية”، رافضاً في الوقت نفسه خداعنا من خلال دغْدَغةِ المشاعر أو باللّعب على وتر العاطفة والحميميّة، فيدخل إلى التراث مُسائلاً إيّاه، مُنقّباً عن الكنوز الحقيقيّة، مُغربِلاً الأفكار البالية منه، ونافضاً الغبار عن “جواهره” الثمينة التي كانت في ذاك الزمن الغابر منارةً معرفيّة قلَّما شهدتها حضارةٌ في العالَم. لكن …، لماذا توقّف الزمن هناك؟

توقَّف عندما لم يتمّ البناء على الأفكار المُبدعة (في حينه) وتطويرها لترقى إلى النظريّة العلميّة، فأكلها الغبار وصدأت تحت الأنقاض. ولكنْ إنصافاً للتراث ومن باب الوفاء له يُجيب معتوق: “فلنعتمد ما اعتمده أهل التراث عندنا، لا أكثر ولا أقلّ. ولْنكن مُبدعين، لا مقلّدين؛ لأنَّه عندما نمشي على خطى الإبداع نكون قد عبَّرنا لهم عن امتنانٍ عقلاني هُم بادروا، منذ أكثر من ألف سنة، إلى وضعنا على سِكَّتِه، بحيث إنَّ تقليدهم الشكلي خيانة لهم، في حين أنَّ البناء على إبداعهم بغية التقدُّم، هو عَيْن العرفان لهم”.

يتقمَّص معتوق في هذا البحث شخصيّة “سندباد” الأسطوريّة في كِتاب “ألف ليلة وليلة”، فينتقل بنا عبر الزمن على بساط بحثه السحري، ويُراقب بمنظاره الثاقب ما خلَّفته الحضارة العربيّة الإسلاميّة من تراث، مُنَقّباً عن كنوزه ومُغربلاً المغشوش منه. إنَّه يعود بنا إلى الماضي… الماضي البعيد… فيَحُطّ في بغداد اليعقوبي، ثمّ ينتقل إلى تونس ابن خلدون، ويُعرّج بعدها على مصر طه حسين، من دون أن ينسى عمليّة التثاقُف بين الحضارات، فيتوجّه غرباً إلى أندلس قصر الحمراء وأرابِسك غراناطة وإشبيلية، ويُقارِن ويُدقِّق ويُمَحِّص ببعض التراث الغربي في “روح الشرائع” لـ”مونتسكيو” وإنسيكلوبيديا “ديدرو”.

يُعرّف معتوق “التراث العربي” لغةً ومُصطلحاً ومفهوماً، فيستنج أنَّ هذا التراث يحمل في أحشائه شحنةً من العواطف والمشاعر الجيّاشة مُقارنةً بمثيله الغربي “البارد” الذي ينحو نحو الماديّة، وبذلك يغدو التراثُ في نَظَرِ الغربيّ “إرثاً ثقافيّاً” ليس أكثر ولا أقلّ، تَرَكَه في الماضي، ولا يُشكِّل عنده سوى جزء من الذاكرة الجماعيّة من دون أن يكون أنموذجاً يُحتذى به، كما أنَّه لا يستدعي سوى الزيارة من دون الحاجة للعودة إلى الينابيع؛ بينما عند العرب يغدو “التراث العربيّ” “ناراً موقدة” وركنَاً أساسيّاً من الحاضر، وأنموذجاً ومثالاً أعلى، وجزءاً من الوعي الاجتماعي والسياسي.

يَستخدم الباحث في تحليله مَنهجاً معرفيّاً – بنائيّاً – تفكيكيّاً، يُعيد من خلاله رسْمَ الصورة المعرفيّة، وذلك بتفكيك الموضوع ثمَّ إعادة بنائه لرصْد الحلقات المفقودة (بعبارة أخرى بعْثرة قطع “ليغو” وإعادة تركيبها، ثمَّ ملاحظة القِطَع النّاقصة المُشوِّهة للصورة بشكلها الكلّي، ممّا يُتيح له في النهاية رؤيتها بكُلّيَتها وبعوراتها بشكلٍ واضحٍ جلي)، ويوازي في استخدام منهجه هذا مُقاربة تاريخيّة ومُقارِنة، مُعتمداً على تقنيّة أساس في نماذجه المعروضة كافّة وهي “تحليل المضمون أو المُحتوى”.

ومن بين النماذج التي انتقاها بدقّة وحنكة يظهر لنا الآتي:

أوّلاً: الأنموذج العربيّ

1- أنموذج اليعقوبي: ينتقي الباحث كتاب اليعقوبي “مُشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كلّ عصر” الذي ينقل على نحوٍ موضوعي حالةً واقعيّة لما كان عليه سلوك 31 خليفة، ما يدلّ في تعامله الميداني هذا عن توجُّهٍ بَحثيٍّ جديد في زمنه، من خلال اعتماده على مُقاربة مُقارنة بعيدة عن الوصف أو التمجيد لخليفة من الخلفاء المُسلمين (من الخلفاء الراشدين وصولاً إلى العصر العبّاسي الأوّل)؛ بحيث إنَّنا نجدُ أنفسَنا في نهاية المطاف أمام فئتَيْن من الخلفاء ينحوان مَنحيَيْن مُختلفَيْن: الأولى، الخلفاء ذوو الصفات الحميدة (15 خليفة) والثانية، الخلفاء ذوو الصفات المُختلفة (16 خليفة). هذه الملاحظة تُشير بوضوح إلى افتراق الطرق ما بين الحالة الاجتماعيّة التي تمخّضت عن العصر الأموي وتلك التي كانت سائدة في عصر الخلفاء الراشدين، فنستنتج بأنَّ الشخصيّة الاجتماعيّة ليست بالضرورة مُطابقة للدور المُفترض؛ وهذا ما يُحيلنا إلى مبدأ النسبيّة الاجتماعيّة المَبني على تناقُضاتِ الشخصيّة البشريّة. ويخلص معتوق إلى أنَّ اليعقوبي الذي عاش في القرن التاسع الميلادي هو مُجدِّد ومُبدِع وعالِم في زمانه، لأنّه يدعو القارئ إلى استحضار العقل في عمليّة المُقارَنة التي يعرضها عند الانتقال من سيرةٍ إلى أخرى، فهو لا يكتفي بقراءة الحَدَث التاريخي قراءةً، بل يعمد إلى تحليله بإظهار جدليّة الثنائيّات فيه.

2- أنموذج ابن خلدون: يرى الباحث أنَّ ابن خلدون يتعامل “مع التاريخ كسلسلة طويلة من التجارب البشريّة الغنيّة والدالّة”، فهو لم ينقلْها نقلاً كما هي، بل أَخضعها لقراءةٍ تحليليّة تتميَّز بالإبداع، بحيث أَوجد ديناميّة في الأحداث التاريخيّة لم يجدْها مِن قبله كلُّ مَن كان يتعامل معها على نحوٍ تأريخي. ففي “مُقدّمته” يربط الصنائع والعلوم بالعمران، بحيث يرتبط نموّ الصنائع والعلوم أو ضمورها بنموّ المُجتمع أو ضموره، وهذا أيضاً هو مبدأ من مبادئ النسبيّة الاجتماعيّة للمعرفة البشريّة. ومفهوم “العمران” الذي يتناوله ابن خلدون مفهومٌ ثوري بالنسبة إلى علومِ عصره لِما له مِن معنىً واسعٍ يضمّ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وهذا ما لم يسبقه عليه أيُّ مفكّرٍ حتّى “إميل دوركايم” نفسه. وهكذا فإنَّ الربط بين الصنائع والعلوم والعمران يقتضي “عقلاً جديداً” “توليديّاً” يُشكِّل مفتاحاً للمعرفة. وهكذا “يُحاكي [ابن خلدون] الأحداثَ والمَعارفَ والظاهراتِ الاجتماعيّة والتاريخيّة كجسمٍ حيّ ومُستدام من حياة المُجتمعات والشعوب، رابطاً الماضي بالحاضر، والحاضر (على نحو توليدي) بالمُستقبل”، كما يُفسّر “التقدُّم المَعرفي على ضوء الحضارة كمفهومٍ حيّ”. والمُميَّز في ابن خلدون “الحداثي” في زمنه وليس “التراثي” عثوره على “المفتاح الخفي” للعمران في نموّه أو ضموره وهو “العصبيّة” التي هي “منظومة تفكير وقاعدة سلوك” وأداة التثبيت لها في السلطة هو “الغُلب”. وبذلك تلعب عنده هذه المفاهيم الثلاثة (العصبيّة، العمران، الغُلب) دور المايسترو الموجِّه في ازدهار الحضارة أو أفولها.

3- أنموذج طه حسين: في تحليله لمضمون كتابه “في الشعر الجاهلي”، يقوم معتوق بتفكيك أهمّ الأفكار الواردة فيه، ويرى أنّ حسين قد كَسَرَ “الحلقة المُفرغة وأفضى بالمعرفة العربيّة، وليس فقط بالأدب العربي، إلى فضاءٍ جديد”. فالتمجيد عند حسين موقف الضعيف فكريّاً وغير الواثق من نفسه، من هنا واجب الإقلاع عن التمجيد والتجميد لأعمال التراث، وإخضاعه للمُراجعة النقديّة والتحليل العقلاني الذي يكسر قدسيَّته.

4- أنموذج تحليل مضمون سجلّات المحكمة الشرعيّة في طرابلس: هي دراسة للطالبة سحر موّاس تحت عنوان “أضواء على ثقافة القرن الثامن عشر” في طرابلس – لبنان، انطلقت فيها الباحثة من فكرة ربْط ابن خلدون نموّ المعرفة بنموّ البنية الاجتماعيّة؛ وقامت بتحليل مضمون عددٍ من سجلّات المحكمة الشرعيّة في طرابلس، ورصدت نوعيّة المَكتبات ومضمون كُتبها التي كانت تُوَرَّث وتُسجَّل في سجلّات المحكمة المذكورة، إضافة إلى الرجوع إلى الحقبة التي عاشها مؤلّفو هذه الكُتب، فاستنتجت أنَّ المعرفة تراجعت في المدينة [طرابلس – في القرن الثامن عشر]، واتّسمت ثقافتها بالتقليديّة وبسيطرة العلوم النقليّة وغياب العلوم العقليّة.

ثانياً: الأنموذج الغربيّ

يَقف الباحث من نماذج التراث العربي وقفة مُحايدة، ويدخل إلى الأنموذج الغربي بعدّته المعرفيّة مُحايداً أيضاً، فهو يرى أنَّ نظرة الغرب في تراثه هي نظرة نقديّة عقلانيّة.

1- أنموذج “مونتسكيو”: في كِتاب “روح الشرائع” لـ”مونتسكيو” تمَّ الأخْذُ بالأفكار الجديدة الخلّاقة كتلك المُتعلّقة بمسألة فصْل السلطات التي لا تزال تُدرَّس في أهمّ الكليّات والجامعات الغربيّة، بينما فكرة “نظريّة المُناخ” غير العقلانيّة التي جاء بها في كِتابه نفسه، تمَّ تجاهلها لأنَّها تفتقر إلى العلميّة والعقلانيّة؛ فربْطه الشرائع بالمناخ، ثمَّ ربْطه الديمقراطيّة بشعوب البلدان الباردة من دون سواها من الشعوب، ينمُّ عن سطحيّةٍ في التحليل وعن مُغالَطةٍ في التفكير.

2- أنموذج “الإنسيكلوبيديا” الفرنسيّة: يعتمد الباحث في هذا الأنموذج على المُقارنة بين “الإنسيكلوبيديا” الفرنسيّة وموسوعة “دائرة المعارف” العربيّة التي بدأها بطرس البستاني بعد حوالي القرن من الأولى، فتأتي المُقارَنة موجعةً على الرّغم من حُسن نوايا “المُعلّم”. ولعلَّ أهمّ ما جاء في هذه المُقارنة أنَّ الأنموذج العربي كان فرديّاً يعتمد على نبوغِ شخصٍ مثقّف أديب اعتمد على دعْمِ السلطة (الملك إسماعيل) في هذا الإنتاج الذي لم يشهد نهايةً سعيدة، لكونه تعرّض لانتكاساتٍ بمجرّد وفاة المؤسِّس لولا الغيرة العائليّة لأقربائه الذين أكملوا ما استطاعوا إليه سبيلاً، وانتهى الأمر هنا؛ بينما الموسوعة الفرنسيّة اعتمدت على مجموعة من الكتّاب والعُلماء والمفكّرين والفلاسفة وأصحاب الاختصاص، فكان العمل الفكري “جمعيّاً” وبعيداً عن شراكة السلطة وتدخلّها في الشاردة والواردة، واستمرّت سنوات لحين إنجازها بدعْمٍ من الجماهير التي اكتتبت بها على الرّغم من التوقّف القسري المُتتالي الذي حصل خلال سنوات إنتاجها بسبب الصراع مع السلطة الملكيّة والكنيسة.

3- الأنموذج الأندلسيّ: هو الأنموذج الأكثر إيلاماً، فالتراث الأندلسي هو تراثٌ عربيّ بامتياز، لكنَّ إهماله سَمَحَ للنقّاد والباحثين الغربيّين بتزوير الحقائق ونَسْبِ هذا الإرث لهم. ويُبّيِن الباحثُ إهمالَ العرب لهذا الكنز التراثي في بلاد الأندلس – إسبانيا، من قصر الحمراء إلى إشبيلية وغرناطة وغيرها..، فهُم مُصابون بـ “عمى ألوان” جَعَلَهم يولون الأهميّة بالاستثمار في الاقتصاد ورياضة كرة القدم بدلاً من عقْدِ الشراكات والتعاوُن الثقافي المُتبادَل والمُشترَك مع الحكومة المحليّة الإسبانيّة والمنظّمات الثقافيّة الدوليّة. وبنظرة “خلدونيّة” يكتشف معتوق الأسباب الخفيّة في سطحيّة تعامُل العرب مع تراثهم الأندلسي، فهي “تعود إلى خوفٍ دفين يعترينا، مُلَخَّصه أنَّنا نعتمد موقف الدّفاع، وهو موقف الضعفاء. نخاف من ألّا نَظهر في تراثنا بموقف الغالبين، فنمتنع عن نقده لئلّا ننتقد أنفسنا”.

مَن أساء إلى التراث العربيّ؟

بعد عرضِ عددٍ من النماذج التراثيّة بشقَّيْها الغربي والعربي، يرى معتوق أنَّ مَن أساء لهذا التراث هو ثلاثيّة تتمثّل بنخبة من المثقّفين العرب الذين فهموا التراث بطريقتهم وأرادوا ترويضه أيديولوجيّاً: 1- النهضويُّون العرب (لم يفهموا معنى “الثورة الفرنسيّة” وخُلاصات حركة التنوير واكتفوا بشعاراتها البرّاقة من دون التجرّؤ على تحطيم أصنام العصبيّات ورموزها المحليّة)، 2- السلفيّون العرب (لم يكُن لديهم مشروعٌ استنهاضي بل أيديولوجي، مبني على “قطع معرفي دينوي، لا على اختلاف ثقافي موضوعي؛ بحيث تحوَّل التراث المُعاد القراءة سَلَفيّاً، إلى سلاحٍ عصباني يستحضر عصبيّات الآخرين في الغرب المسيحي”)، 3- الحزبيّون العرب، بشقَّيْهم القومي (سطحيّة معرفتهم بالتراث وتسرّعهم السياسي) والاشتراكي (اعتبروا التراث العربي نقيضاً للحداثة ومُعوّقاً كبيراً في طريق تقدُّم الشعوب).

بعد إبحاره بين الشرق والغرب ببوصلةٍ “خلدونيّة” وبقاعدةٍ ذهبيّة هي “النسبيّة الاجتماعيّة”، يشبّه معتوق التراث بالبيت القديم الثمين مع مشروعيّة وإمكانيّة الوارث القيام ببعض التعديلات على هذا البيت؛ فهو لا يسلّم بشكلٍ مُطلق للتراث، ولا يدعو إطلاقاً إلى هدمه، بل إلى البقاء على مسافةٍ نقديّة منه، اصطُلح على تسميتها في بحثه بـ “التماسُف”.

ومَن يقرأ هذا المُنتَج المعرفي، يشعر بسلاسة اللّغة ووضوحها، وبتواضُع الباحث الذي يُشارِك طلّابه إبداعاتهم المعرفيّة، حيث كانت سحر موّاس أحد هذه النماذج. واللّافت أنَّه يُلقي للقارئ بعض الأحجيات ثمَّ يدعوه بحسّه المعرفي وفضوله العلمي إلى مُتابعة القراءة للوصول إلى الإجابة الشافية.

حاول الباحث “إنصاف التراث العربي” من خلال الإضاءة على كنوزه الثقافيّة والمعرفيّة، وعبَّد الطريق للباحثين العرب للغوص في هذا المُحيط المعرفي الواسع الغنيّ بالمُعطيات والمعلومات التي تجعلنا نقرأ التراث بطريقة موضوعيّة وعقلانيّة ومُختلفة، بعيدة عن العاطفة والوجدانيّات. كما دعا إلى إدراج التراث كمادّةٍ للبحث العلمي التفاعُلي، في المدارس والجامعات والمُختبرات، وكمادّة تعليميّة تربويّة نقديّة حيّة، يصحّ أن تدخل أعمالها كلّها، وليس تلك التي تتعلّق بالشعر العربيّ القديم فحسب، في المناهجِ المدرسيّة المُعاصرة.

***

*باحث في عِلم اجتماع المعرفة – لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *