الشمَّاس عبد الله زاخر مُبتكر المطبعة العربيَّة
الخورأسقف جوزيف شابو
يقول أفلاطون: “الإنسان منَّا يعيش بأبحاثه أكثر ممَّا يعيش بأعماله”.
عبد الله زاخر، الشمّاس الحلبي العالِم، أنفقَ عمره منقِّبًا، باحثًا، مُكبًّا آناء الليل وأطراف النهار على وضع مؤلَّفاته الثمينة الغزيرة ورسائله الفذَّة، وعلى صناعة فريدة جليلة، كان رائدَها في الشرق العربي من دون منازع. وكان، في الوقت عينه، يَحيا مخلصًا النيَّة لوجه الله تعالى، ولعِلمه، وفي ورع، وتقشُّف، وتقوى، وسيرة ذاتيَّة بريئة من الزّيف والخمول والتواكل والخداع، حتى قال فيه أحد كتَّاب حياته: “كان الزاخر ممارسًا فضيلة التواضع بأنواع كثيرة مختلفة، حتى إنَّه لم يرد أن يتقبَّل درجةً إكليريكيَّةً مُحتَسِبًا نفسه غيرَ أهلٍ لهذه الخدمة”. فأبدع وأثرى وأفاد وعاش أبحاثه وأعماله جنبًا إلى جنب، فكان بذلك إنسانًا بكل ما للكلمة من معنى قبل أن يكون عالمًا. إذ لا يمكن أن يصبح عالِمًا حقيقيَّا من غير أن يصير قبل ذلك إنسانًا حقيقيًّا.
في نشرة الرهبانيَّة الباسيليَّة الحلبيَّة “حياة وعمل”، أيلول 1948، وفي افتتاح أعياد يوبيل الشمَّاس عبد الله زاخر، يضعُه الأب العامُّ للرهبانيّة أمبروسيوس قسِّيس في عداد الرجال العظام الذين “تأسَّست طائفتنا المحبوبة (الرُّوم المَلَكِيِّين الكاثوليك) على فضائلهم، وغيرتهم، وأتعابهم، وتضحياتهم الجمَّة، والسَّير الحثيث الفعلي على خطواتهم”. ويقول فيه الأب أدريانوس شكُّور، في مقدِّمة النشرة المذكورة: “هو من الشخصيَّات الكبيرة التي ملأت عصرها بقولها، وعملها، وتركت للخَلَف آثارًا غزيرةً يصعب إحصاؤها في وقت وجيز”.
كنَّا نظنُّه مُبتكرَ المطبعة العربيَّة، وأوَّل مَن صنَّفها في حلب فحَسَب، لكن جوزيف الياس كحَّالة، في كتابه “عبد الله زاخر” الذي ألَّفه بالفرنسيّة، وعرَّبه بنفسه، قد كشف لنا غزارة هذا الرجل، وأوقفنا على كلِّ ما عرف عنه، فأثار وقائعَ هامَّةً في حياته الحافلة، وأطلعنا على الحقيقة السافرة معتمِدًا الوثائق الأصليَّة، والمراجع الدامغة، مُقارنًا، مدقِّقًا، مُفنِّدا كلَّ رأي يبديه أو حكم يُصدره، رادًّا كلَّ وهم وتدليس، مصوِّبًا ما وقع فيه الأوَّلون من مغالطات، فصحَّح لذلك أخطاء شائعة لحقت بهذا الرجل وافتراضات لا تمتُّ إلى واقعه بصلة وأحكامًا متهوِّرة حينًا، مُتَخَيَّلَة حينًا آخرَ شأن العالِم الذي يرى في الحقيقة الجوهر الذي انفجر منه هذا الوجود، والعلَّة التي أوجدت هذا الكون، وقبس النور الأوَّل الذي أضاء العدم، بنسج علمي راقٍ فيه من الجهد والعرق والنظر الثاقب، والتحليل، واعتماد القرائن والشواهد، وصولاً الى النتائج الصائبة شيء كثير. وقد قسَّم بحثَه ثلاثةَ أقسام:
سرد في القسم الأول الحالة الاجتماعيَّة والأدبيَّة والكنسيَّة لعصر عبد الله زاخر. وأتبعه في القسم الثاني فتحدَّث عن المخطوط الوحيد لحياة الزاخر، والذي كتبه تلميذُه يواكيم مطران. وأسهب في القسم الثالث في الحديث عن مؤلَّفات الرجل، وترجماته، ورسائله الكثيرة.
إنَّ في سماء الأدب والفنون والعلوم أسماء تبوَّأ أصحابها ذرى المجد، واحتلُّوا قممه السامقة، ونفعوا البشريَّة منافع جمَّة، ولكن نفرًا منهم بقي طيَّ الكتب، وذكريات زمن غائم تولَّى، حتى يأتي مَن يزيلُ عنهم غبار النسيان، ويقتحمُ عليهم مكامنهم، وينبشُ آثارهم، فيترجم لهم سيرتهم العظيمة، وينشر فضلهم، ويقدِّمهم إلى الأجيال، راصدًا دورهم الوطني الجليل، وإسهامهم الحضاري الشامخ، مُشيدًا بمناقبهم الرفيعة، وإنجازاتهم الرائعة، وعطائهم السمح دون حدود، وذاك ما منح شعوبهم العزَّة والرفعة والحياة بما أنجزوه من جلائل الفكر وعظيم الابتكارات في مختلف مجالات الحياة.
لقد وعى جوزيف الياس كحَّالة ذلك، وتنبَّه له، فآلى على نفسه كشفه في كتابه عن عبد الله زاخر، العالِم السوري الحلبي، والذي عَنوَنَه: “عبد الله زاخر، الفيلسوف اللاهوتي، مُبتكر المطبعة العربيَّة في الشرق”.

وإذا نحن أمام رجل أخذ من كل فنٍّ بطرف، فجمع إلى صياغة الذهب صياغة الكلام، وبرع “في النقش، والتصوير، وساعات المياه، والنسخ، وطبخ الفولاذ”، وفي سواها، فأبدع وأعجب، كما جلَّ في التأليف الجدلي واللاهوتي عددًا لا يُستهان به من الكتب، فله الرسائل التي احتوت ردودًا، ومواعظَ، ودروسًا، وترجمات بالغة الأثر جودةً وإتقانًا.
وكان المعلِّمَ الذي يلقي الدروس اللاهوتيَّة على شمامسة البطريرك أثناسيوس دبَّاس. ونِعمَ الصناعةُ، صناعةُ الكلام، وصناعة الآلة، ولا سيَّما المطبعة الوسيلة الحضاريَّة العجيبة، والتي كان له فضل الرِّيادة في استحداثها في وطنه الحبيب سوريا، وفي بلدته حلب، فكانت المطبعة العربيَّة الأولى في الشرق كما نوَّهنا.
في كتاب جوزيف الياس كحَّالة، هذا الذي بين أيدينا، دراسة وافية شافية في كلِّ مآثر عن الزاخر، وما قيل ، وقال، وطبع، وأعطى، وما تحلَّى به من كريم الطَّبع، ورفيع الخلق، وعاطر السيرة، حتى لم يدع لمؤلَّفه مزيدًا لمُستَزيد.
ويحسُّ قارئ كتاب عبد الله زاخر للكحَّالة الشوق والحمية والفخر. وإن كان ثمة ما يدعو الى بعض اللبس فيه وهو على كلِّ حال غير ذي بال ما أعلنه المؤلِّف في ترجمته العربيَّة (ص37) من “أن عبد الله زاخر، لم يكن يتقن اللغات الأجنبيَّة المستعملة في عصره، كاللاتينيَّة واليونانيَّة والفرنسيَّة”.. إلخ، بل أتقن اللغة العربيَّة فقط. وهذا ما يؤكِّده لنا كاتب حياته القس يُواكيم مطران، حيث يقول: “لم يقرأ سوى كتاب صغير في مبادئ النحو، وشيئًا من الإيساغوجي في المنطق”.
قيل: “إبحَث عن المعرفة لأنَّ المعرفة لا تبحثُ عنك”. لقد بحث جوزيف الياس كحَّالة مليًّا عن حقيقة عبد الله الزاخر باجتهاد وجِدّ، فأصاب.. ونجح وأهدانا هذا البحث المعرفيِّ المفيد.
فله تقديرنا، وشكرنا، وإعجابنا.. والأمل في المزيد من هذه الأعمال الفكريَّة الجليلة والسامية.
***
تنبيه
صدر الكتاب في ثلاث طبعات:
1 ـ العام 2000، باللغة الفرنسيَّة تحت عنوان:
ABDALLAH ZAKHER, Philosophe, théologien et fondateur de L’imprimerie arabe en Orient – son époque, sa vie, ses œuvres. Diffusé par la maison d’édition: ALTEREDIT.
2 ـ العام 2002، باللغة العربيَّة تحت عنوان “عبد الله زاخر، مُبتكر المطبعة العربيَّة”. صدر الكتاب عن مركز الإنماء الحضاري، حلب، سوريا.
3 ـ العام 2006، باللغتين العربيَّة والفرنسيَّة (في كتاب واحد)، تحت عنوان ” عبد الله زاخر الحلبي، مُبتكر المطبعة العربيَّة في الشرق”. وصدر الكتاب في احتفاليَّة حلب عاصمة الثقافة الإسلاميَّة.