بورخيس: الملحمة عائدة وستتسيّد الأزمنة كلّها

Views: 400

أحمد فرحات*

 

هذه هي الحلقة 15، وليست الأخيرة من حوارٍ بانوراميّ كنتُ أجريته شخصيّاً مع كبير أدباء أميركا اللّاتينيّة الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 – 1986). كان ذلك في العام 1978، وتحديداً في منزل الصديقة ليونور غونزاليس، الناشطة الفرنسيّة من أصلٍ أرجنتينيّ، والتي إليها يعود الفضل في وصلي ببورخيس، وجعْله يمنحني أكثر من أربع ساعات من وقته الثمين، كان خلالها مُتجاوباً بحماسة مع جدل الأسئلة والأجوبة والمُناقشات المتولّدة، شجَّعه على ذلك أيضاً أنّني كنتُ بالنسبة إليه “الشاب العربي الأكثر قراءة واستيعاباً لأعماله الإبداعيّة ولبؤرة شخصه المُتمحورة فيها”؛ حسبما أخبرتني بذلك في ما بعد، الصديقة غونزاليس. وهذا الأمر، على الأرجح، هو الذي فتح لي باب الصداقة الواثقة معه والالتقاء به مراراً في ما بعد، تخلّلتها لقاءات حواريّة إضافيّة معه، إن في باريس أو في جنيف، المدينة الأحبّ إلى قلبه، والتي مات ودفن في “مقبرة الملوك” فيها سنة 1986.

 

في ما يلي تفاصيل هذه الجولة من الحوار مع صاحب “كتاب الرمل” التي دارت بشكلٍ مركزيّ حول الفنّ الروائي المُهدَّد بالزوال، ثمّ عن أدب وفكر “ما بعد الحداثة”، علاوة على الملحمة كبديلٍ للرواية يتوقّع بورخيس عودتها لتتسيّد الأدب والأزمنة من جديد.

قلتُ لبورخيس: أكثر من مرّة ذكرتَ أمامي أنّ الرواية إلى خفوت وتراجُع وحتّى إلى موت، وأنّ القصّة أو الحكاية باقية مع الزمن، وستتجدّد في استمرار.. هل من شرحٍ وتفنيدٍ لكلامك هذا؟…أجاب:

نعم، قلتُ ذلك في العديد من محاضراتي في جامعات بوينس آيرس وباريس وروما وجنيف منذ أكثر من أربعين عاماً؛ وكذلك في العديد من المُقابلات الصحافيّة والتلفزيونيّة التي أُجريت معي في تواريخ مُتباينة زمنيّاً، وبعضها قريب جدّاً. ولا يغرّنك ازدياد عدد مَن يتصدّون لكتابةِ الرواية في العالَم اليوم، فهذا دلالة، ليس على صمودها وازدهارها كما يُشاع، وإنّما على استسهال اللّجوء إليها كوعاءٍ يُفرِّغ فيه كلّ مَن هبّ ودبّ من مدّعي الكتابة ما لديهم من سيول كلاميّة عابرة، ويظنّون بعد ذلك أنّهم يُنجزون أعمالاً أدبيّة تنتمي إلى جنس الرواية.

هذه الظاهرة باسم أدب الرواية تتفشّى، مع الأسف، في سائر بلدان العالَم، ولا تتصدّى لها، وخصوصاً في الآونة الأخيرة، أيّ أصواتٍ نقديّة أدبيّة جادّة بمعاييرها، اللّهمّ إلّا في ما نَدر، وبشكلٍ غير مؤثّرٍ و”رادع” كما كان يحصل في السابق.

وأعتقد أنّني لستُ وحدي مَن يلحظ هذه الظاهرة العشوائيّة لتهافُت الكتابة الروائيّة في العالَم، ويؤشّر عليها، بل ثمّة كتّاب ونقّاد كثر يشاطرونني الرأي عَينه، ويرون أنّ ما يُكتب روائيّاً اليوم أغلبه يفتقد بؤر مخاضات التجارب الوجوديّة العميقة، والصدوع الذاتيّة، والمُغامرات الحياتيّة التي تدفع بالذات الكاتبة لتثبيت قوانينها الخاصّة المتصدّية للواقع المعيش من أجل الواقع المعيش ذاته، وفي سائر أبعاده، بما فيها بُعد التماهي غير الواعي بالمكان والزمان، والدَّفع بهما لاستيلاد مناطق شعوريّة إضافية على طبيعة الإنسان نفسه.

ثمّ إنّ الفنّ الروائيّ، يا صديقي، احترافٌ، وتفرُّغٌ كلّي، وهمٌّ دراميّ تصاعديّ مفتوح يُفكّك البلادة السائدة، ويُفجِّر الثوابت المُتساكنة، ويَرث اللّاشعور الجمعي الذي يمتدّ بأنساقه الإضماريّة على الأجيال الراهنة واللّاحقة كلّها، وليس مجرّد جلسات سرديّة مزاجيّة يدوّنها فلان أو علتان بعد تقاعده من العمل مثلاً، أو في أثناء إجازة مفتوحة له، يقرّر خلالها تسجيل مذكّرات شخصيّة أو واقعات سياسيّة أو حوادث جرميّة أو مدوّنات عائليّة أو تقلبّات غراميّة… إلخ.

والفنّ الروائي أيضاً انفتاح، أو على الأصحّ، اندماجٌ شامل بالأنساق الإبداعيّة الأخرى من شعر ومسرح ومونولوغ ونقد ومُتابَعة للنظريّات النقديّة والأدبيّة دائمة التحوّل والتطوّر، والإسهام فيها وجعْلها همّاً إبداعيّاً وفلسفيّاً ذاتيّاً يوازي همَّ إنجاز العمل الروائي نفسه؛ فالروائي الحقيقي هو مَن يُنشىء عالَماً مُوازياً للعالَم القائم يكون بالضرورة بديلاً منه بعد سلسلة لا تنتهي من التعقيدات والتحدّيات المُستمرّة والحافلة بالتناقضات والموازنات على أنواعها.

ربّما لهذه الأسباب وغيرها في زمننا هذا.. زمن الثقافات القاحلة بوجهٍ عامّ، أرى أنّ “مؤسّسة الرواية” كقوّة أدبيّة خلّاقة تمنح الوجود الآخر المتفرّد لنفسها، وللعالَم، بإعادة تكوينه وإنتاج مضامينه وروح أشكاله على اختلافها، هي إلى موت وزوال من وجهة نظري.

ولماذا لم تُقدِم أنتَ على كتابة رواية بانوراميّة مُكتنزة بتلك الشروط والأنساق والعناصر التي رسمْتها، وستظلّ، على ما يبدو، في حالةِ رسْمٍ توليديّ لها وفق ما ترتئي سيّد بورخيس؟

ربّما يكون تكاسُلاً منّي، وربّما أيضاً بداعي اندلاعي على أشكالٍ أدبيّة أخرى مُوازية أجدُ نفسي فيها أكثر من غيرها، ككتابة القصّة أو الحكاية أو القصيدة أو النصّ الإبداعي “المستقلّ” الذي يُعمّره الخيال المتعالي فيّ كوسيطٍ سحري بين الفكر والوجود.

وماذا عن مؤسّسة القصّة أو الحكاية هنا يا ترى، أليست هي الأخرى مهدَّدة أيضاً؟

لا أعتقد، فالقصّة أو الحكاية هي شأنٌ يوميّ في حياة الناس، يحبّون سماعه وتداوله بمتعةٍ تأخذ على عاتقها تفكيك السقيم والمُملّ فيهم، وتمدّهم بالنموذج الأسمى لغياب الأشياء داخل الكلمات، وتجسيد الفكر بالصورة، ما يجعل الحياة لديهم أسهل وأجمل وأكثر أُنساً وطمأنينة. وعليه فالناس لم ولن تتعب من سماع القصّة وسردها على ذاتاتها، وعلى الآخرين، بخاصّة عندما تكون هذه القصّة مشحونة بجاذبيّة الشعر وما يبثّه من فضاءات باعثة على التكامُل التناغمي مع أشياء العالَم.

اسمح لي سيّد بورخيس بأن أكون على النقيض تماماً من توقّعاتك بشأن إخفاق الرواية أو موتها بحسب تعبيرك؛ فالعالَم الذي عَرف تجارب روائيّة عظيمة كالتي تستشهد أنتَ بمُقتطفاتٍ منها، وتُنوِّه بأصحابها الرموز من أمثال: هرمان ملفيل، وجوزيف كونراد، وروديارد كبلينغ، وجيمس جويس، وفرانس كافكا وهرمان هسّه وغيرهم.. وغيرهم، عَرف لاحقاً أيضاً أسماءً روائيّة لا تقلّ شأناً وشأواً عنهم نذكر منها: جوزيه ساراماغو، وميلان كونديرا، وياسوناري كاواباتا، وباولو كويلو، وإيتالو كالفينو، وهاروكي موراكامي، وآلان روب غريّيه، وميشيل بوتور، وغابرييل غارسيا ماركيز، وميغيل أستورياس، وأومبرتو إيكو.. والقافلة تطول وتطول سيّدي، فكيف تقول بتراجُع الفنّ الروائي.. وحتّى بموته وزواله؟

أَطرق مُحدّثي بعض الشيء ثمّ قال:

ما تقوله صحيح بنسبةٍ معيّنة، لكن لا تنسى، في المقابل، أنّ الأغلبيّة بين هذه الأسماء الأدبيّة التي ذَكرتها، قامت بفكّ الازدواج بين العمل الروائي والنَّفَس الملحمي الذي ينبغي ألّا يُستبعد البتّة من بين العناصر الأساسيّة المكوِّنة لبنية العمارة الروائيّة المنشودة. والنَّفس الملحمي على هَيْبَتِه، لا بدّ له من التناغُم الكلّي مع عناصر المتعة التي تختال زهواً، بين الفينة والأخرى، في تضاعيف النصّ. وهي تضاعيف من شأنها، في المحصّلة، أن تمنح القارىءَ النشوةَ العارمة المطلوبة جرّاء قراءته للرواية. وحسبي هنا أنّ الروائي الألمعي والحاذق يُدرِك تماماً جوهر ما أقول. كما يُدرِك أيضاً وظيفة تلكم المُعادلة الأدبيّة الذهبيّة المُتماهية بين النَّفس الملحمي من جهة، وبوارق المتعة السرديّة المُشتهاة من جهة أخرى.

هل أستنتج هنا أنّك تربط بقاء الرواية وتطوّرها ببقاء العنصر الملحميّ فيها؟

لا.. لا.. ليس الأمر بهذه الآليّة التقريريّة المبسّطة. إنّه أعقد من ذلك بكثير، فهو يرتبط بمحدّداتٍ غريزيّة وحسيّة ولا شعوريّة مُتعالية وطمّاحة، وأنا بتُّ من الذين يربطون الرواية بإعادة خلْق العالَم، وخلْق العالَم قد يبدأ من أيّ أمرٍ بسيط للغاية أو عكسه، تُعالجه الرواية على طريقتها الملحميّة التي قد تتعدّى خلالها حدود الأوقيانوس نفسه، وتُجبرنا على أن نتأوّل الأمور على نحوٍ قد يفضي بنا إلى نيران الميثولوجيّات الأولى، أو يُبقينا، على مستوىً آخر، في جدلٍ واقعي تفرضه علينا موجبات الحياة اليوميّة.

باختصار، الرواية وعاء نسكنه ويسكننا، بعِلمنا أو من دون عِلمنا، وهي تدفع بكاتبها الملحمي إلى رسْمِ مسائل سابقة على وجودنا، وقد تستمرّ هذه المسائل في الوجود من دوننا أيضاً. إنّها الرؤية المُتنامية التي يَستحضرها خيالُ ذلكم الكاتب من رؤيته الذهنيّة، كما من رؤيته القلبيّة، ويَجد نفسه لاحقاً وقد فجَّرها في نصٍّ هو أشبه ما يكون بملحمة الحياة عَينها، إن لم يكُن هو الحياة نفسها ومستقبلها.

هكذا على الروائي أن يخوض في المستقبل وهو على بيّنة من صوره أو على غير بيّنة، لا فرق. كما أنّ عليه أن يرتق حتّى ثوب الأبديّة نفسها.

وهل بات على الكاتب الروائيّ الملحميّ، سيّد بورخيس، أن يغسل حتّى الخطيئة الأصليّة للجنس البشريّ؟!.. أطلقتُ سؤالي هذا بصيغةٍ فيها الكثير من المُبالغة الساخرة، فأجابني مُحدّثي بجديّة:

ولِم لا أيّها الصديق الشاب؟! فأيّ كاتبٍ روائي ملحمي نراه يستند بالضرورة إلى إرثٍ لاهوتي مُزمن، وليس شرطاً أن يكون هذ الإرث دينيّاً أبداً؛ فأنا من القلائل الذين يقرّون بوجود لاهوتٍ غير ديني، وقد يكون هذا اللّاهوت أقوى من أيّ لاهوتٍ دينيّ آخر، كون الأخير يحدّ من تدفُّق صاحبه عليه، ويُبقيه دوماً في نطاق التعاليم الدينيّة المفروضة، بينما اللّاهوتي الحرّ يتجاوز الصورة إلى ما بعدها، ويظلّ يمخر في ماهيّاتٍ مُتمادية لا تنتهي تجلّياتها أمامه، وفيه، ويصير بالتالي يتعامل مع الغيب باعتباره خيالاً مطلقاً وصديقاً، يرسم عبره، وبحريّة، خيارات سفره، ومغامرات إدراكه الحدسي، هكذا من دون أيّ حمولات ثقيلة ضاغطة، فيصل بعدها إلى مرتبة التجلّي الإبداعي، وهي مرتبة تفتح بدورها على قراءات يقينيّة تظلّ تذكّره بأنّ الفناء والبقاء، ما هُما إلّا مصطلحان نسبيّان يقودانه ربّما إلى حلّ بعض ألغاز العتم واللّامعرفة.. وأنّ ما ينتظره من درب للوصول، لا يزال طويلاً جدّاً وشائكاً جدّاً جدّاً.

على ما يبدو، فإنّ الأمر أفضى بنا إلى الإيغال في أجواءٍ صوفيّة شديدة المُباطنة سيّد بورخيس.. أليس كذلك؟

الأفضل يا صاحبي أن تقول إنّه أفضى بنا إلى أقاصي “عِلم الخيال”، وهو عِلم على الروائي الملحميّ أن يتنكّبه في استمرار، فهو يقوده إلى التفكُّر المُلزِم في العماء الأصلي للكون، وفي التجليّات الأسطورية الناتجة عن هذا التفكُّر. ومرسيا إلياد (1907 – 1986) الفيلسوف والروائي الأميركي من أصلٍ روماني، كان قد تحدّث من قبل عن أنّ الأسطورة ليست وَهماً وتجديفاً، وإنّما هي تجربة وجوديّة فاعلة تستثير الوعي الإنساني من زوايا عدّة، دافعة به إلى ترتيب علاقة أقوى وأظهر مع مُحيطنا الأرضي والمُحيط الأوسع للكون. كان إلياد، وهو الروائي الذي عَقْلَنَ الخرافة وجَعَلَها جزءاً لا يتجزّأ من درب الأديان المُفضية إلى “العود الأبدي” يقول إنّ العقل لا يكتسب قيمته العليا والإعجازيّة إلّا إذا اعترف بقصوره ومحدوديّة طاقته.

وأيّ بديل فنّيّ أدبيّ للرواية التي تتوقّع زوالها سيحلّ محلّها سيّد بورخيس، وخصوصاً أنّها مؤسّسة إبداعيّة من الصعب جدّاً تصوُّر ضمورها، فكيف بغياب أبّهتها؟

اسمعني جيّداً أيّها الصديق.. اسمعني: بخلاف الكثير من الآراء والتصوّرات الأدبيّة والثقافيّة، أتوقّع عودة الأدب الملحمي إلى الواجهة من جديد ليتسيّد الإبداع والأزمنة كلّها، فهو أدب عظيم فعلاً، وخصوصاً حين يتلاقح فيه الوضوح بالغموض والغموض بالوضوح، وفي إطارٍ إنشادي شعري ونثري مُشترَك، يتيح ولادته الجديدة المتدفّقة مُبدعٌ شامخٌ برؤاه الانقلابيّة الحديثة وأسئلته غير المسبوقة، ويكون أيضاً على وعي عميق ونافذٍ بأساليب الملاحم القديمة ومضامينها الغنيّة المتشعّبة. ومثل هذا الأنموذج الأدبي الملحمي المتوقّع ولادته في القريب العاجل، سيفرض، من وجهة نظري، تحديّات إبداعيّة صميميّة على الجميع، كونه سيكون نادراً جدّاً ومُقارباً جدّاً للإعجاز بعَينه.

عن أيّ ملحمة أو مواصفات ملحمة تتحدّث هنا وتتوقّع، استطراداً، عودتها كما تقول، علماّ أنّ عالَمنا الحديث كان قد نسي الملحمة وبات يتعامل معها كآبدة من الأوابد ليس إلّا؟

كلامي عن عودة الأدب الملحمي إلى الواجهة، لا يعني البتّة أن نستنسخ من جديد الإلياذة أو الأوذيسة أو غلغامش أو الشاهنامة أو الكاليفالا… إلخ، بل يعني، في المقام الأوّل والأخير، عودة الروح الملحمي السامق والتدفّقي إلى النصوص الأدبيّة الجديدة من شعر ورواية وحتّى قصّة قصيرة أو أقصوصة، وكذلك إلى نسيج الفنون الجميلة من رسْمٍ ونحْتٍ وموسيقى وغناء ورقصٍ تعبيري وفولكلوري… إلخ.

نعم، الإبداع في عالمنا اليوم يحتاج إلى ثورة جذريّة كاسحة في مضمونه وأساليبه وبنياته المُختلفة كي يكون قادراً على مُواجهة الطغيان الكبير للسياسات الإمبراطوريّة المُتعسْكرة والتي تُهدِّد الكوكب بأسره بتحويله إلى كرة نار.

وحده الأدب الملحمي بنشيده العالي وغموضه الخلّاق وملاءة تفاصيله البانوراميّة، بإمكانه أن يواجه ثقافيّاً كبرى تحدّيات انحراف سياسات الأوليغارشيّات الماليّة والعسكريّة الكبرى التي تدير العالَم، وتُدمِّر الطبيعة، وتَصنع الحروب “الخالدة”، التقليديّة منها والجديدة الأكثر فتكاً، والتي يتحوّل في ظلّها الأدباء والمفكّرون والفلاسفة إلى مجرّد أرقام لا تأثير يُذكر لاحتجاجاتهم وصرخاتهم المناسباتيّة العابرة، ناهيك بأنّ أغلبيّتهم تحوّلوا إلى مجرّد كائناتٍ حياديّة عاجزة لا تلوي على شيء، مُقارنةً بما كان عليه أسلافهم سابقاً من جرأة وروح مُواجَهة وتخطيط للحياة العامّة وحتّى مُشاركة لأصحاب القرار في قرارهم النافذ، ولاسيّما في أوروبا الفكر والأنوار والقانون والتطوُّر وحماية حقوق الإنسان.

إذن، في زمنِ تمادي الطغيان المادّي الكاسح، لا بدّ من طغيانٍ أدبي كاسح يُواجهه، وينتصر عليه؛ وليس هناك من بديلٍ إبداعي يتولّى المهمّة هنا سوى الأدب الملحمي. وإذا ما سألتني عن فرسان الملاحم المنتظرة هؤلاء، فإنّني لا أعرفهم حتّى الآن، ولا أعرف كيف سيكون عليه مستوى خطابهم الملحميّ البديل، لكنّني واثق من أنّهم سيولدون، إن لم يكونوا قد وُلدوا بمعزل عنّي، وباتوا يتحضّرون لترجمة مهمّاتهم الإبداعيّة التحوّليّة الكبرى بالتأكيد.

في المحصّلة، لا بدّ من أن يتحالف رجال العِلم والأدب على إدارة العالَم بدل تحالف طواغيت العسكر والاقتصاد عليه.

هل يصلح أدب “ما بعد الحداثة” إذا ما تبلورت معالمه أكثر، واتّضحت هويّة نماذجه أكثر فأكثر، أن يكون جزءاً لا يتجزّأ من عمارة الإبداع الملحمي المُقبل، إن لم يكُن هو نفسه هذه العمارة الإبداعيّة الملحميّة المنشودة، علماً أنّ هذا الأدب (أدب ما بعد الحداثة)، وكما تعرف أنتَ في الصميم، كان قد جرى الكلام عليه منذ عقودٍ طويلة تعود إلى الحرب العالَميّة الثانية، ويُصنّف، في المناسبة، بعض نتاجكَ الأدبي على أنّه في عداده، وبالتالي فإنّك، على الأقلّ، صرتَ واحداً من فرسان “ما بعد الحداثة” التجريبيّين هؤلاء.. ما تعليقك؟

مَن صنّفني وصنَّفَ بعض نتاجي الأدبيّ على أنّه في خانة أدب “ما بعد الحداثة”.. هل تملك أن تقول لي ذلك أيّها الصديق؟

أكثر من كاتبٍ وناقدٍ حاذقٍ ذَهَبَ مَذهب هذا الاستنتاج والقول، يتقدّمهم الروائيّ الإيطاليّ الكبير أومبرتو إيكو؛ وكنت قد التقيته شخصيّاً في روما قبل ستّة أشهر تقريباً، وتكلّمت معه في شؤون روائيّة ونقديّة غربيّة عدّة أتينا في بعضها على التداوُل في مسألة أدب “ما بعد الحداثة” واستنطاق الرؤية الفلسفيّة له، فذَكَر أمامي أنّ أكثر من نصف سرديّاتكَ يُمكن أن تدخل في نِطاق أدب “ما بعد الحداثة”… “ذلك أنّ بورخيس، وهو هذا السارد الاستثنائيّ البارع، لم يغلق يوماً عقله وحواسّه وسائر ملكاته الإبداعيّة أمام متواليات التاريخ والأزمنة الثقافيّة والمعرفيّة المُتداخلة دفعة واحدة.. تراه يعجنها هكذا عجناً في أتون رأسه وذاكرته العجيبة، ثمّ يبثّها في نصوصه الفريدة بثّاً يشي غالباً بأنّنا أمام عرّاف كتابة أكثر منّا أمام كاتبٍ فذّ فقط، ودائماً نحسّ معه بأنّه ينتمي إلى مُعلّمي الإنسانيّة الكبار”… هذه شهادة أومبرتو إيكّو فيك سيّد بورخيس، وذلك كما ساقها لي بالحرف الواحد أو”بعضمة لسانه” كما نقول نحن في الدارجة اللّبنانيّة؟

شكراً له ولكَ على أيّ حال، فالآخر، على ما يبدو، يراني في مرآة نتاجي الأدبي كما لا أرى نفسي أحياناً، أو ربّما غالباً، وحُقّ له ذلك بالتأكيد.

أمّا بخصوص “أدب ما بعد الحداثة” في إطاره العامّ، فإنّني أرى أنّ تعقيداتٍ شتّى تُحيط به حتّى الآن. أوّلاً، على مستوى معنى المُصطلح وثباته. وثانياً، في إيجاد الأنموذج الأدبي “التطبيقي” الدالّ فعلاً عليه.

ثمّة مَن يرى – وأنا من بينهم – أنْ ليس هناك أيّ فارق جوهري يُذكر بين مبدأ المُغامرة والتجديد والتجاوُز في ما خصّ النماذج الأدبيّة المتفوّقة والمُفارِقة في أدب الحداثة نفسها، وبين نظيراتها المتفوّقة والمُفارِقة في ما سمّي بأدب “ما بعد الحداثة”. والذين يتكلّمون عن فارق متعيّن يُميّز النصّ ما بعد الحديث عن نظيره الحديث، وخصوصاً لجهة الأسلوب واللّغة الساخرة الفاقعة، والمَيل إلى الخلْط بين الأزمنة والأنواع الأدبيّة، واللّجوء إلى التناصّ الكيفيّ، والتقطيع الفوضوي للنصوص، ومزْج العِلم بالخرافة فيها، فضلاً عن توظيف الإعلان التجاري في القصيدة، مثلاً، وجعْله جزءاً من مبناها ومعانيها وإشاراتها، كلّ هذا وغيره، ليس شرطاً أن يُحقِّق تمايُزاً يفصل الأدب الحديث إلى قطاعَين: حديث وما بعد حديث، وخصوصاً أنّ النقد الجديد كان قد تحدَّث منذ بدايات الحداثة عن كثير من العناصر والتوصيفات التي سردناها على أنّها من صلب أدب الحداثة عَينه. وبإمكامنك العودة هنا إلى أطروحات الناقد الفرنسي رولان بارت لتستدلّ بقوّة على ذلك.

ولكنّ المحسوبين على أدب “ما بعد الحداثة” رفضوا “اليقينيّات” التي أتت بها الحداثة، وكذلك اليوتوبيّات المُلحقة بها، ونادوا بنسْفِ الكليّات وإحلال الفرديّات المُطلقة، وحوّلوا حتّى الحريّة إلى شيءٍ ملموس وغير مجرّد. كما تحدّثوا عن “ميتا سرد” عصيّ على التصنيف، وضارِبٍ للأساليب، ومُحطّمٍ للمنظور وتفاصيل الزمان والمكان.. ودعوا حتّى إلى الانقطاع عن الحاضر وصنْع تقليد “إيديولوجيا المُستقبل”، وقالوا بالموت النهائي للمؤلِّف، ومعه نظريّة الغرابة والاغتراب التي كان المؤلِّف قد أحاط بها نفسه لمدّة طويلة، وشكّوا بالمعنى نفسه، والدهشة نفسها، والخفاء نفسه، وبعضهم شطّت به المُغالاة ليقول إنّ ما مضى لم يمضِ، وما سيأتي قد أتى في غفلة عنّا أو بعِلمنا… ما تعليقك؟

ابتسمَ بورخيس ابتسامةً ساخرة صفراء، ثمّ قال:

على ما يبدو من تساؤلك هذا، فإنّ أدباء “ما بعد الحداثة” لا يريدوننا أن نكون قرّاء افتراضيّين فقط، بل بَشراً افتراضيّين أيضاً. أفهم أن يرفضوا اليقينيّات واليوتوبيّات على أنواعها.. أفهم أن يتحدّثوا عن “ميتا سرد” عصيّ على التصنيف، وضارِب للأساليب، ومُحطّم للمنظور، وحتّى كاره للرؤية، ولكن لا أفهم البتّة شطحاً يقول إنّ ما مضى لم يمض، وإنّ ما سيأتي قد أتى في غفلة عنّا، أو بعلمنا.. نعم لا أستسيغ أبداً مثل هذا الهذيان الذي لا يقود إلى شيء في النهاية.

ما أنقله كمضمون أو معلومات واردة في سؤالي لا يُمثّل رأيي بطبيعة الحال سيّد بورخيس، وإن كنتُ شخصيّاً أتعامل مع عبارة: “ما مضى لم يمض، وما سيأتي قد أتى في غفلة عنّا أو بعلمنا”، على أنّها قصيدة شعريّة ليس إلّا.

هنا أصرّ بورخيس على موقفه قائلاً:

أرفض أدب الحفلات التنكّريّة المجّانيّة الذي يغدر أصحابه بفكرة الأدب نفسها، والشعر نفسه، واستطراداً بالملحمة الجديدة المُنتظَرة نفسها. وهُم بذلك يُبرهنون على أنّهم لا يرتقون، حتّى إلى أيٍّ من مستويات البداهة الفطريّة المحسوسة الأولى التي تؤسِّس للإبداع الواثق وتصلُّب عمارته لاحقاً.. وأرى من جهة أخرى، أنّ الأدب كفنّ ومَعرفة خلّاقة أعلى من معرفة الظواهر في النتيجة، لن يسوقنا إلى مناطق العدم حتّى ولو كان أدباً عدميّاً. وأنا كما تعرف من أنصار الأدب العدمي الخلّاق، وهو أدب ملحمي احتجاجي أكثر حمولة بالأضواء وانفجاراً بها.

باختصار غير مخلّ، أفهم سيّد بورخيس أنّك مُعادٍ لحراك “ما بعد الحداثة” في السرد والشعر والفنّ، كما في الفكر والفلسفة والنقد؟

ليس دقيقاً البتّة استنتاجك هذا. أنا لستُ معهم، كما أنّني لستُ ضدّهم؛ فتجاربهم، سواء أكانت في الإبداع على اختلاف أجناسه أم في الفكر والتفلسف والنقد، لا تزال تُعاني من أزمة تبلْوُرٍ نهائي مُقنِع حتّى لمُعلّميهم الكِبار، فكيف بأنفسهم؟! وهكذا تراهُم في عجزٍ مُقيم عن الجمْع بين العيان والبرهان، ومع ذلك فهم يغذّون السَّير أكثر في مَسارِ تعطيل فهْم أنفسهم لأنفسهم وفهْم الناس لهم.. يا للعجب!!

لستُ معكَ سيّدي في ما تقوله وتستنتجه بخصوص أنّ رموز جماعة “ما بعد الحداثة” غير مُقتنعين بما يقومون به. ودليلي على ذلك – في الشعر هنا – ما كان يسوقه كِبار شعراء “مدرسة نيويورك” في الولايات المتّحدة في الأربعينيّات والخمسينيّات من القرن الماضي، وعلى رأسهم جون آشبيري وفرانك أوهارا وكينيث كوخ ولويس ورش وتيد كروسويلد وفرانك ليما وغيرهم.. وغيرهم. وكم كنتُ، على المستوى الشخصي، محظوظاً بلقائي بعرّابهم جون أشبيري (1927 – 2017) في نيويورك عام 1979، وحديثه إليّ عن تجربته كشاعر “ما بعد حداثي” إذ قال: “بدأت سرياليّاً متطرّفاً، ثمّ قادتني التجربة إلى ما أنا عليه الآن: شاعراً ينتمي إلى فضاءات “ما بعد الحداثة”، تخطفه الكلمات المُباغِتة، المُشاكِسة، المُقترفة والمرصّعة بأضواء ليست كالأضواء، فيطوِّعها على مزاجه إخراجاً واستخراجاً، حتّى يتكّل المعنى على ذاته ظهوراً في القصيدة.. قصيدته التي تظلّ تدعو القارىء إلى مُختبرها ليصير جزءاً لا يتجزّأ منها. وفي النتيجة، لا بدّ لي من تسجيل ملاحظة أراها مهمّة لكلّ مُتابع لتجربتي الشعريّة، وهي أنّ القصيدة عندي هي قصيدة كشّافة لا وصّافة”.

وسألتُ عرّاب “مدرسة نيويورك”: هل من تعريفٍ لكَ لـ”ما بعد الحداثة” في الشعر؟.. أجابني: “ما بعد الحداثة عندي هي بكلمات معدودات، أن أقدِّم شعراً يستفزّ الوجود، ويستفزّني أنا باستمرار ككائنٍ في هذا الوجود.. كائن يتحمّس ويتلهّب مُتنقّلاً على هواه في الأزمنة والأمكنة، ولا تهمّه محطّة الموت، من كثرة ما صارت موطوءة ومبذولة وعاجزة عن الإمساك ببوصلة الاتّجاهات؛ ولا شيء يعوزني إلى هذه المحطّة كي أكون مُخطئاً أو مُصيباً فيها طالما أنا صرتُ منفصلاً تماماً عن الما قبل والما بعد، وطالما أنّ الوجود واللّامعقول باتا شيئاً واحداً”.

علَّق بورخيس على هذه الإجابة المزدوجة بالقول:

تراني أمام كلامٍ له توقيعات سرياليّة قائمة على القلب والتقلّب وقراءة مشهد الموت والوجود من وراء حجب الفكر والقلب والعقل هذه المرّة. وهذه القراءة هي بالتأكيد واثقة، حرّة، بيضاء ومتخفِّفة من كلّ أثقال الكهنوت الموروث عبر التاريخ، وتتعامل مع ظاهرة الموت كأمرٍ أقلّ من عادي ويُمكن تجاوُز رهبته بيسر وسهولة، وخصوصاً عندما يستحيل الوجود واللّامعقول شيئاً واحداً بلغة الشاعر ما بعد الحداثي جون أشبيري.

غير أنّني في كلّ ما قاله وساقه هذا الشاعر، لم أقبض على تفسيرٍ واحد يُمكنه أن يُدخلني بقناعةٍ ثابتة في فضاء مشروع أدبي أو شعري اسمه “ما بعد حداثي”.

هنا قاطعتُ بورخيس قائلاً له: لا يُمكنني أن أجيب بالطبع عن الشاعر جون أشبيري، لكنّني أملك التأويل الحيويّ لكلامي وكلامه مُجتمعَين بالقول أوّلاً، إنّ شرح المفهوم.. مفهوم ما بعد الحداثة (من طرفه هناً) يُساوي تعريفه، إن لم يكُن يتفوّق على التعريف نفسه، وثانياً إنّ لكلّ مُبدِع تعريفه لـ “ما بعد الحداثة” وفق النمط الذي يختطّ ويريد، ناهيك بأنّ شاعر “ما بعد الحداثة” لا يُمكنه مبدئيّاً أن يُقدّم تعريفاً للمصطلح انطلاقاً من قناعته برفْض أيّة حقيقة أو مكوِّنٍ موضوعيٍّ ثابت. وعليه لا يحقّ للآخرين تجاهُلَ موقفه المبدئي هذا، أو ازدراءَه، وإنْ كان لهؤلاء الآخرين الحقّ الكامل في نقده وتقييمه.

وليس من التفصيل في شيء أن نقول سيّد بورخيس، إنّ جون آشبيري يُعتبر بالنسبة إلى شعراء “ما بعد الحداثة” في الولايات المتّحدة بمنزلة أندريه بريتون للسرياليّين في فرنسا سابقاً..

… وهل فعلتُ أنا غير النقد وإبداء وجهة نظري في الموضوع؟! أجاب بورخيس وأردف: على كلّ حال إنّ موضوع “ما بعد الحداثة” هذا قُتل بحثاً ونقاشاً في الدوائر الثقافيّة الغربيّة على امتداد سنوات، بل عقود طويلة سابقة بحالها، وكان من شأن خلاصات هذه المُناقشات أنّها وَضعتْنا أمام فوضى تعريفات غير نهائيّة للمصطلح. غير أنّ هذا كلّه لا يعني أنّ النماذج الأدبيّة المُقدَّمة على أنّها تُمثِّل أدب “ما بعد الحداثة”، هي مُقنِعة تجاه ما يدّعيه أصحابها في هذا السبيل.

أعتقد سيّد بورخيس أنّ تجليّات “ما بعد الحداثة” أكّدت حضورها على مستوى الخطاب الفكري والفلسفي أكثر بكثير من حضورها على مستوى الخطاب الأدبي؛ وبالتالي صرنا نقرأ عن فلاسفة ومفكّرين كِبار في زمننا هذا، هُم في أساس منطلقات أطروحات “ما بعد الحداثة”، أوّلاً، كمفهوم تتّسع فتوحاته كلّ يوم، وثانياً كتنظيرٍ جدلي ذي فاعليّة في حراك الظاهرة وتداعياته، ومن أبرزهم على سبيل المثال لا الحصر: ميشال فوكو، جان بودريار، فريدريك جيمسون، ريتشارد رورتي، رولان بارت، يورغن هابرماس وغيرهم.. وغيرهم.. ألا تعتقد بذلك؟

حتّى الخطاب الفكري “ما بعد الحداثي”، لا يزال هو الآخر خجولاً ومتردّداً في طرح معالِم أُسسه وخطوطه العامّة، فكيف بتكريسها؟! والبعض من هؤلاء الفلاسفة الذين أشرتَ إليهم في تساؤلكَ يعرفون ذلك تماماً، وكانوا لا يدّعون أنّهم يمثّلون “ما بعد الحداثة”، وفي الطليعة بينهم الفرنسي النابه ميشال فوكو، أبو النقد والفلسفة النقديّة الموجَّهة ضدّ المؤسّسات السلطويّة السياسيّة والاجتماعيّة الرّاسخة في الغرب؛ وأهمّيته عندي أنّه كان لا يتوسّل اللّيغوريا على الإطلاق، أي التعبير بشيء ظاهر عن الشيء المُضمَر.

كان ميشال فوكو فيلسوفاً يتنازع مع الدافع اللّذويّ الغريزيّ فيه ليصير أمراً اعتياديّاً لا غبار عليه اجتماعيّاً، مُهدّماً لأجل ذلك جدار العقل والحواسّ كلّها، وساعياً لتحقيق “النصر” على مجمل التحدّيات التي تُجبهه فيه، حتّى ولو “برعب” المفاجآت الأخلاقيّة.

كما كان فوكو مُجابِهاً قويّاً لكلّ ما يعتريه من تأثيراتٍ تُفرض عليه، سواء من سلطة السياسة أم سلطة النمط أم سلطة الأشياء؛ ودائماً ما كان يأتيها جميعاً من جهاتٍ معرفيّة يَجهلها كلّ نقّاده من الفلاسفة والمفكّرين والمثقّفين المُقتدرين.

وكان صاحب كِتاب “الكلمات والأشياء” يمتلك الإمكانات المعرفيّة الواثقة لجعْلنا نكسر معه كلّ انسداد فكري أو سياسي أو فلسفي، مُتجاوِزاً بذلك كلّ التحفّظات والتابوات. وله جملة تساؤليّة قالها ذات يوم، لا يزال إيقاعها يرنّ في ذاكرتي حتّى اللّحظة، ومفادها: “ما قيمة هذه الحياة، يا سادة، إذا كان الخوف هو كلّ ما تقدّمه لنا؟”.

وهذا يقوّي الظنّ فينا بأنّ هذا الفيلسوف جمع في شخصه، إلى جانب النقد والفكر الحرّ الجريء، الشعر والأدب أيضاً، وبصيغة مكتظّة بالأسئلة الإيحائيّة التي تستخلص الأبدي من العابر حسبما يقول بودلير.. والشيء الباهر النادر، فكريّاً، فلسفيّاً وشعريّاً، هو من معدنه دائماً كما يُقال.

ومَن هم الشعراء والأدباء الذين انجذب إليهم ميشال فوكو، وشكّلوا له مصدر إلهام أو معرفة أخرى أغنت أنساق أطروحاته الفكريّة والفلسفيّة وكذلك السوسيولوجيّة والسايكولوجيّة المحض؟

هنا استأذنَ بورخيس لشرب كوبٍ كبيرٍ من الماء.. وكان يُفضّله فاتراً في كلّ الأوقات، ثمّ قال:

شارل بودلير كان في طليعة الشعراء الذين انجذَب إليهم ميشال فوكو وأثَّروا عميقاً فيه، وخصوصاً بعدما قرأ ديوانه الشهير: “أزهار الشر” الذي حَذفت منه الرقابة الفرنسيّة ستّ قصائد قبل نشره في العام 1857، ولم تأبه هذه الرقابة الرسميّة لأيّ احتجاجٍ مُسبّق كان أبداه الشاعر قبل الحذْف. وفي كلّ الأحوال، اعتُبر الديوان في حينه ثورة شعريّة رياديّة رسَمت أُفقاً مُغايراً للشعريّة الفرنسيّة والأوروبيّة، بل والعالَميّة أيضاً.

باختصار، كان بودلير بوّابة ميشال فوكو المُدهشة على طريق مُعايَنة الشعر الأوروبي الحديث، الخارج للتوّ من إهاب التجارب الكلاسيكيّة الكبرى للشعر الغربي برمّته، فكوَّن من خلاله (أي فوكو) دافعيّة هائلة شاطَرته رؤيته الجديدة الجامحة للعالَم، فضلاً عن أسلوبه الجامح في تناوله المسائل الفكريّة والفلسفيّة والاجتماعيّة التي سعى خلالها لامتلاك الحقيقة تحت لسْعِ الحقيقة نفسها، ودَورها في كسْرِ طوق المطوّقين من داخلهم وخارجهم، وإظهار وعي اجتماعي/ سياسي آخر يصوِّب على مؤسّسات السلطة العتيدة الرّاسخة، بالقوّة ذاتها التي يصوِّب فيها على مؤسّسة المُجتمع، وهي الأكثر خطورة لناحية تواطئها الإرادي مع السطة القامعة في تكريس الانحراف السائد على الأرض وتحوّله إلى تقليد، فيبحث مثلاً في “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”، وهو أصلاً عنوان أحد أهمّ كُتبه عندي، وقد وضَعه في السويد في العام 1961 مُناقِشاً فيه بعُمق غشامة السلطة وغشامة المُجتمع المدجَّن من طرفها، ولاسيّما تجاه مَن تمَّت تسميتهم في ما بعد بـ “المجانين” و”المهووسين” و”فاقدي العقول” و”المختلّين”…إلخ. وقاموا بطردهم من الحياة العامّة، واعتبارهم خطراً على المجتمع، وسلامة أفراده، وعوملوا كأنّهم الطاعون والجذام، حتّى تمّ جمْعهم مرّة في سفينة وتركوها تهيم في البحر، وأطلقوا عليها اسم: “سفينة الحمقى”. وهكذا إلى أن اهتدت السلطة مع المُجتمع المدجَّن في ما بعد إلى حلٍّ قضى ببناء معازل خاصّة بالحَجْر عليهم، وفرْضِ رقابة زجريّة طاولت كلّ مَن كان داخل هذه المعازل التي باتت أشبه بمُعتقلاتٍ للموت الأصفر البطيء أكثر من أيّ أمرٍ آخر.

وهكذا بقيتِ الأمور تُراوِح مكانها زمناً طويلاً إلى أن تغيّرت النظرة إلى هؤلاء المحشورين في تلك المعتقلات، فبدأوا يتعاملون معهم كمرضى نفسانيّين يُمكن مُعالجتهم وإبلالهم من عوارض الأمراض التي هُم عليها، وخصوصاً مع نشوء علم النفس العيادي وتطوّر مخابره على يد العالِم الألماني فيلهلم فونت في العام 1879.

وما رأيك بالذين وصفوا كتاب “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” لميشال فوكو بأنّه كتاب “ما بعد حداثي” بامتياز، وخصوصاً د. هانز يورغن آيزنك، وهو بالمناسبة عالِم نفس وطبيب بريطاني من أصل ألماني أَسهم في علاج مئات الحالات من الأمراض العقليّة التي كان يُنظر إليها على أنّها مُستعصية؟

ربّما جاء هذا الإطلاق التوصيفي على كتاب فوكو من باب الفانتازيا الدعائيّة ليس إلّا، أو من باب الإعجاب الشديد بالفكرة المركزيّة للكِتاب وأسلوب علاجها النقدي الجريء من جانب المؤلِّف الذي قرَّر الانخراط بشؤون أمراض الصحّة النفسانيّة والعقليّة للقيام بأدوارٍ سياسيّة واجتماعيّة ثوريّة وصارمة بحراكها الثوري.. وأضيف على ما سبق من كلام بأنّ ميشال فوكو كان فيلسوفاً وأديباً من نَوعٍ نادر للغاية، بخاصّة عندما تكلّم في إحدى محاضراته عن الجمال الكئيب في هذا العالَم وضرورة أن يتحوّل إلى جمالٍ مُبهج دائماً، ولن تقوم قائمة لهذه الأُمنية الفوكويّة إلّا بعد حلٍّ عِلميٍّ وجذريٍّ لمشكلات الأمراض النفسانيّة التي يُعاني منها كلّ البشر، بهذه النسبة أو تلك.

***

*مؤسّسة الفكر العربي

*نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *