سجلوا عندكم

” علَّمَتنا الحياة ” هو خُبزُ جورج طرابلسي

Views: 605

الدكتور جورج شبلي

إنّ التَعلُّمَ ثقافةٌ يتربّى عليها العقل، فتُكسِبُ صاحبَها مزيداً من المعرفةِ والوعي. وهو، أيضاً، عامِلٌ انفتاحِيٌّ يَصلُحُ، بالدُّربةِ، لأن يكونَ البديلَ البديهيَّ عن الإنغلاقيّةِ، ما يقودُ، حتماً، الى الإلفةِ مع المعرفةِ، والمعرفةُ ليسَت، في عرفِ العقلِ، أمراً ثانويّاً . ويجنحُ التعلُّمُ الى الإتّصافِ بالشموليّة، فلا محرَّمات، أو محظورات، وذلك، حتى لا يقعَ في مأزقِ إغلاقِ النّوافذ، أو التُّجاهل، فيَقلُّ، حينَها، رصيدُ المُدرَكات، وتتحطّمُ، بالتالي، أَرجلُ طاولةِ التَثَقّف… إنّ تَشَبُّثَ التعلُّمِ بالحياةِ يمنعُهُ عن اقترافِ غلطةٍ كهذه.

جورج طرابلسي، في كتابِهِ ” علّمتنا الحياة “، بنى طاولةً مستديرةً، ووزَّعَ الورقةَ غيرَ المُحَبَّرَةِ على المُشارِكينَ المُختَلِفي الإتّجاهاتِ في مفاهيمِهم، ومبادئِهم. لم ينصَّ طرابلسي مضمونَها، وهذا عامِلُ أمانٍ لرَجُلٍ مُنتَبِهٍ الى الضّوابِط، مُثابِرٍ على الدقّةِ في منهجيّةِ الصّحفيِّ الباحِث. من هنا، قدَّمَ للقارئِ فِكراً ناضجاً لمجموعةٍ من البارِزينَ في العِلمِ، والأدبِ، والإعلامِ، والتّربيةِ، والوطنيّة… وكان طرابلسي وسيطاً ذكيّاً بين هؤلاءِ وبين المُتَلَقّين الذين أقامَ معهم عهداً مُتَعَدِّدَ الأبعاد، يتمظهرُ في العلاقةِ مع الثقافة، وفي العلاقةِ مع مرجعيّاتِ الكتاب، وفي العلاقةِ معَهُ، هو المُقَمِّشِ الجامِع. 

إنّ القارئَ في ” علَّمتنا الحياة “، يعملُ على إثراءِ ذاتِهِ، وتنضيجِها، بمعجزةٍ إنسانيّةٍ هي الثقافة التي تؤدّي، حتماً، الى اختبارِ كَمٍّ من المعلوماتِ، والمواقفِ، والآراء، كفيلةٍ بإطلاقِ ورشةٍ تعليميّةٍ تربوية، تروي مَيلَ الذّاتِ الى المعرفة. ولمّا كان الإنسانُ عَطِشاً الى الحقيقةِ المعرفيّة، ولمّا كان جورج طرابلسي يشجبُ الإنكماشَ والإنكفاءَ على صعيدِ الإفادةِ من تَجارُبِ النّاسِ، ومن فِكرِهم الذي أخذَ بالكلمةِ جَسَداً، وضعَ في حضرةِ القارئِ اتّجاهاتٍ متنوِّعةً من طرائقِ التّفكير، صاغَتها أقلامٌ تنظرُ الى الإنسانِ مِحوَراً إجتماعيّاً، وفلسفيّاً، وروحيّاً، على حَدٍّ سواء. إنّ إطارَ التنوّعِ في تَتابُعِ نُصوصِ ” علّمتنا الحياة “، يُقَدِّمُ مجموعةً من المشاهدِ المُتماسكةِ التي حوّلَتِ الكتابَ مسرحيّةً عديدةَ الفُصولِ، ثابتةَ المرمى، لأنها مأخوذةٌ من مَنبعٍ واحدٍ هو مدينةُ الإنسان.     

إنّ القارئَ، في ” علّمتنا الحياة “، ليسَ وحيداً، أو في عُزلة، فقد جعلَه طرابلسي في حِوارٍ صامتٍ مع جماعةِ  الكاتِبين، وكأنّ طرابلسي يُرَوحِنُ هؤلاء، ويُقيمُ شِركةً، بدونِ مرسوم، بين القارئِ وفكرِهم. وهو، بذلك، يَدفعُ بالقارئِ الى تنشيطِ مشروعِهِ المَعرِفيّ، والى مَدِّ هذا المشروعِ بِما يُثَبِّتُ بُنُوَّتَهُ لكيانِ الثقافة. ولكنْ، يبدو جَلِيّاً، في سياقِ الكتابِ، أنّ طرابلسي لا يحثُّ على تَبَنّي موقفٍ، ولا يفرضُ تأييدَ رأي، ما يعني أنّ القُرّاءَ يُقارِبُون ما هو معروضٌ أمامَهُم بحريّةٍ غيرِ منقوصة، إيجاباً أو نَفياً، مُطابقةً أو فَرْقاً، قُرباً أو بُعداً… لكنّهم، جميعاً، يحسّونَ أنَّ في صلْبِ مطالعاتِهم الإدراكيّةِ مَنبَعاً للدّهشةِ وللسعادة.    

إنّ حُضورَ جورج طرابلسي، المُنَسِّقِ المتجرِّد، كان في ” علَّمتنا الحياة ” حضوراً خلفَ السّتارة، بمعنى أنّه يتركُ القارئَ يَرعى شؤونَه بنفسِه. لكنْ، وبالرَّغمِ من النَّسَقِ المنهجيِّ الذي التزَمَهُ طرابلسي بعدمِ التَدَخُّلِ، فإنّ   الإستشعارَ بحُضورِهِ، بأعماقِ الذّات، كان مُحَتَّماً، ويمكنُ وَصفُهُ بأنّه كان مُشارِكاً في القراءةِ والإطّلاع، ويُضفي على المطالعةِ شعوراً طيِّباً يُدفِئ. وهكذا، فإنّنا نرى، في الكتاب، دَمْجاً بينَ شَرطِ الكلاسيكيّةِ والذي يقضي بإزاحةِ شخصِ الكاتِبِ عن المحتوى، وبينَ نكهةِ تَحَسُّسِ عَيْنِ القارئِ صورةَ طرابلسي بينَ الكلماتِ، أو خلفَ السّطور.  

إنّ الهدفَ الأسمى في ” علَّمتنا الحياة “، والجَديرَ بالوقوفِ عندَه، هو بَلوَرَةُ التّعاطي الجَمعيِّ مع قضايا ترسِّخُ عصرَ الإستنارةِ الإنسانيّةِ بفِعلِ التّجربةِ مع الحياة. فالإختباراتُ الحياتيّةُ تكشفُ عن فضاءاتٍ ثقافيّةٍ لا حصرَ لها، وعن وجودِ ” تعليمٍ حياتيٍّ” دائمٍ يقومُ على المَنحِ والتَقَبُّل، وبالتالي، لا أزمةَ علاقةٍ بين العقلِ والتلقّي، بالرّغمِ من حيثيّةِ التّساؤلِ الذي يقودُ، حتماً، الى معرفةٍ أوسَع. ولمّا كان الإنسانُ كائناً مفكِّراً، فالعقلُ لا يستكينُ إلّا حينَ يجدُ إجاباتٍ تُرضي فُضولَه، من هنا، تُجيبُ نصوصُ ” علّمتنا الحياة ” عن أسئلةِ التأمّلِ في الدّنيا، بديناميّةٍ قياسيّة، وباستجابةٍ لمعاييرِ العقلِ الصّارمة، ما ينمّي القدرةَ على التّفكيرِ الموضوعيّ، ويرفعُ وَعيَ القارئ، ويساعدُهُ على تكوينِ وجهةِ نظرٍ عن الحياةِ والإنسان. 

يؤمِنُ جورج طرابلسي بأنّ الكلمةَ هي الجسمُ السرّيُّ للمعرفة، تتوجّهُ الى العقلِ ببُشرى سارّةٍ هي تمكينُهُ من هزمِ الجهلِ الذي تُكَبِّلُ عبوديّتُهُ التسلُّحَ بالمعرفةِ مصدرِ سعادةِ العقل، وسبيلِ هَدْيِهِ الى الحقيقة. لذلك، كان كتابُ ” علّمتنا الحياة “، والذي تحكّمَت بهِ مِهنيّةُ طرابلسي النّاضجة، نَمَطاً إبداعيّاً يُنتِجُ تَعَلُّماً، بِما يتفاعلُ في نصوصِهِ من إحساسٍ، وتَخَيُّلٍ، وحَدسٍ، وعمقِ تحليل، وإيمانٍ بحقيقةِ المعرفة. فالكلمةُ والعقلُ، في الكتاب، يتآلفانِ في اتّساعِهما، وقد نظَّمَ جورج طرابلسي صيغةَ العلاقةِ بينهما، فاستقامَتِ الموازنة، أو أنّه وضعَ العقلَ تحتَ وصايةِ الكلمة، لأنّه، بدونِها، يفقدُ مبرِّرَ قيمتِه.

إنّ جورج طرابلسي المَناقِبيَّ والمَغمورَ بإيمانِ أنّ الثّقافةَ هي أيقونةُ شخصِ الإنسان، وهي البُعدُ الجوهريُّ في حياتِه، شَرَّكَ النّاسَ بإيمانِهِ في كتابِهِ ” علّمتنا الحياة “، ناسِجاً عِبرةً أنّ المعرفةَ هي قامةُ العقلِ الفريدة، ونِعمتُهُ القُدسيّة، بها يُدعى الى الأَسمى، ومُتَبَنِّياً للعقلِ قَولاً يتوجّهُ بهِ الى المعرفة: ” إنْ كنتُ لا أُقيمُ فيكِ، فلا يمكنُني أن أُقيمَ في ذاتي “.

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *