سجلوا عندكم

في رثاء بيروت

Views: 342

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 لا أعرف مدينة عظم رثاء الأدباء والحكماء والشعراء فيها، أكثر من مدينة بيروت. توالى على رثائها عند كل كارثة أصابتها. بل كان يرثيها أهلها ومحبوها، ومن كان يعرفها عن كثب، مدينة حب وحياة وجمال، منذ أن كانت تفتح للناس ذراعيها، حوانيت ومنتجعات ومدرجات لهو وفرح ومرح وقاعات أعراس ومهرجانات. وخلجانا وشواطئ ورملة بيضاء، منذ ما قبل الفينيقيين، وحتى أيام اليونان والرومان والبيزنطيين والأمويين، والصليبيين والأيوبيين، إلى يومنا هذا.

منذ ذلك التاريخ، والناس يتمنون أن يتاح لهم النزول بين أفيائها، وأن يبيتوا فيها، بل يتبيأوا فيها، ولو ليوم وليلة.

(لو كنت غارسيا ماركيز/ لأقول لأكتب/ وأكملت الحب/ في المشرق، ذاك الزمان/ لكتبت عنك/ أبلغ مما كتب/ ولأعلنت المسرة والهدى/ لكنني أنذا العابر والساهر/ للسفر والغربة وأن اكون النذر/ فأبحر الحب/ وضاع العشق/ وتبعثر الغرام.)

فبيروت، كانت ولا تزال، جاذبة للنزول فيها. يحلم من يراها، أن يلتقط الصور لها، ويحلم أن تكون مهبطه، ولو ليوم واحد. (morganstern.com) فهم يرون فيها الجنان التي تجري من تحتها الأنهار، كما وصفها الرحالة والمستشرقون الغربيون والشرقيون على حد سواء.

(في الشرق والغرب/ مناراتك النبض/ من عميق وجدان يا أيها الإنسان.)

لوحة لإيفان دبس

 

في هذا الإطار يأتي ديوان الحزن، ل”فارس الحرموني المهجري: رباعية بيروت. أناشيد. دار نلسن. رأس بيروت.2020. 100ص. تقريبا”، بلغته العفوية، وبأشعاره الباكية، ليعبر عن أحزانه، وهو يرثي، مدينة بيروت، بعد إنفجار المرفأ، في الرابع من آب 2020.

(فكنت أنت المدينة/ وأم القضايا والحقوق/ واللجوء والعبور/ وكان العقوق وغدروا.)

 بيروت، كانت بالنسبة للشاعر فارس الحرموني، الأم الحاضنة لأبنائها جميعا. والجدار الذي إليه يلجأ كل من ضاقت به الدنيا.  وهي السوق التي يقصدها الناس من أقاصي الأرض في المواسم. وهي محجة الأمم، بتجارها وطلابها وصناعها، وأهل الأدب والحكمة والفن، على مدار العام. يأنسون إليها كأم رؤوم. ويستأنسون بين أفيائها، مثلما يستأنس الأبناء بأمهم، في سويعات الكرب، وفي سويعات الدعة، على حد سواء.

(وحدها فيروز/ وما زالت نشيد الأمل/ تغني، تغني وتصلي/ للخصب، لصخب بيروتي).

 يطرح الشاعر فارس الحرموني، الكثير من الأسئلة، في “رباعية بيروت”، التي وضعها، بعد الإنفجار الرهيب الذي أصاب كبدها.  ولا غرو، فهو قد عاش الشطر الأول من حياته، في رأس بيروت. حيث كان طالبا جامعيا، في الجامعة الأميركية. وهو لا زال يذكر الشوارع المحيطة بها. وتلك الأتية إليها من الدورة والكرنتينا والمرفأ وخليج مارجورجيوس والحصن وعين المريسة، وصولا إلى شارع بلس، والجامعة الأميركية، والشوارع المحيطة بها: مثل شارع السادات وغاندي وجاندارك وعبد العزيز والصيداني والحمرا. ناهيك عن الشوارع الأخرى في المقلب الشرقي من بيروت: الجميزة وغورو والرميل وشارع طرابلس والصيفي والجعيتاوي وحي السراسقة. بالإضافة إلى ساحة البرج ومبنى النهار وساحة سمير قصير، وشارع الأورغواي.

(شوارعك ومدارسك والجامعة/ تبحرت في أرض الله الواسعة/ وكما العديد قبلي وبعدي/ نولد فيك نبعث وننبعث.)

 يبكي الشاعر بيروت، المدينة الذبيحة، التي مزقها إنفجار المرفأ. والتي كانت قد عصت على يد المنون، منذ أول القرن. على الرغم من جميع الحروب التي جرت فيها. بيروت الحية من خلال الأماكن. ومن خلال المدارس والمطابع والجامعات. ومن خلال المستشفيات والصحف والمكتبات. ومن خلال البورصة والمصارف والبنك المركزي. ومن خلال المسابح والمقاصف والمسارح والسينمات ودور اللهو والأندية والحانات. بيروت هذة التي عرفها الشاعر، كان  قد إفتقدها، بعد إنفجار المرفأ، في الذكرى المئوية لتأسيس الكيان اللبناني، والتي سرعان ما تحول لبنان، بفضل بيروت عاصمة له، فصار أجمل البلدان، حتى أطلق عليه لقب سويسرا الشرق.

( كلهم راحوا وتركوك في العراء/ منشغلا بغية درء الحاجة/ وأن تسند الأهل والناس/ وأن تقطف العلوم والسفر إلى الغيوم.)

في مجموعة “رباعية بيروت،  أناشيد” لفارس الحرموني، تجد العلاقة بين الفن والمكان، وطيدة وقديمة. تنقلها أعمال الفنانين الكبار الذين عاشوا في بيروت. أو أولائك الذين زاروها ورسموها. تجد التجارب الفنية ، مجسدة في تلك المدينة التي ألهمت جميع الفنانين، من شعراء وأدباء ورسامين ومسرحيين. ولا يعدو فارس الحرموني، إلا واحدا من هؤلاء، الذي شرب من مائها، وعاش في أفيائها، وحين ضربت بيروت بتلك الضربة العظيمة، كان أول من إستحثها على النهوض، على الرغم من دمعه الذي جرى عليها.  ولذلك وجد أنه ملزم بتقديم تلك الأناشيد، حتى تعود إلى النهوض من جديد، وتتقدم البلدان كعادتها.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *