“عصمت”… من “نشيد الأنوثة” لجهاد الزين

Views: 162

جهاد الزين

أتمنى وأنا في هذه السن المتقدمة أن يكون اسمي الأول قصيراً وخاطفا مثل الأسماء الأولى  الصينية: مو، ما، شي، هْوا، لي، لو، ون، ووا، شِن والكثير غيرها من أسماء الذكور والإناث الأولى في الصين. هذا سيشعرني بكسب الوقت والمزيد من الزمن الفتي. فأنا، يجب أن لا ينسى القارئ، فتى عمره مائتان وسبعون عاماً، لأن الزمن عندي يتقدم فتوةً وليس شيخوخة، والإسم الأول الصيني بسبب خفّته كنسمة يفتح لي الهواء النقي كما لو أنني أقف في شهر آب على أعلى قمة في العالم أو كأني أعيش في ألطف مناخ ربيعي على جغرافيا الكرة الأرضية أو كأني أتلقى همسة من فتاة جميلة تلمس شفتاها طرف أذني فتدخل الكلمات القليلة كموسيقى إلى روحي أو  كرصاص سعيد إلى صدري.

جعلني ذلك أعتقد أن الشعوب كلما طالت أسماء أفرادها الأولى كلما تراجعت إلى الوراء أو صار تقدمها أصعب أو أصبحت أكثر شقاءً حتى لو كانت ناجحة. يمكنني أن أضع العرب في إحدى هذه الخانات ما عدا الأخيرة (الناجحة). كيف لشخص اسمه الأول مركّب من كلمتين وأحيانا ثلاث أن ينطلق إلى الأمام وقد حمل كل هذه الأثقال منذ ولادته. كان أحد معارفي يحدثني عن شخص من مدينة حلب اسمه الأول مع إسم عائلته يبلغ خمس كلمات وكان كلما ذكره يبدأ بغناء الإسم كأنه يغني قصيدة…. لا بد أن هناك سراً لتفوق الألمان رغم أن لغتهم تحوي بعض أطول كلمات اللغات في العالم أو لصبر الهنود رغم أسمائهم الأولى الطويلة التي حتى لو اختُصِرت تبقى طويلة قياسا بالأسماء الأولى الصينية. لكن إذا كانت قاعدة ارتباط طول الإسم بتخلّف الجماعة أو الأمة فماذا عن الأسماء التي هي استثناء للقاعدة حيث الشعب والأمة المتقدمان ومرة سمعتُ نكتة في أحد الأفلام الأميركية، تقول أن العروس البولندية ليلة زواجها تكسب طول إسم عائلة زوجها… فقط!

لم أكنْ أنا عصمت لأثير كل هذه الشكوك سابقا بصحتي العقلية. حتى احتمال الاحتيال بدا مستبعَداً أمام ادعاء كهذا. من يجرؤ على القول أنني شخص أبله؟ فذكائي مُثْبَت منذ كنتُ صغير السن. الذاكرة، النباهة، حسن التصرف في مواقف اجتماعية، القدرة على الإصغاء في اللحظة المؤاتية، النظافة، والمراهق القادر على جذب انتباه الفتيات من سنه وأكبر وأخيراً وليس آخراً النجاح الدراسي المقرون بمواظبة لا تكل. كل هذه الصفات جعلت حالتي المستجدة مثيرة للعجب. هل هي لعنة سقطت عليّ وعلى عائلتي أم جنون نفسي مفاجئ من تلك العوارض التي قال الطبيب النفسي الذي استشارته والدتي أنها تأتي من أعماق “لاوعي” مأزوم لا يمكن سبر أغواره؟

هل أنا عصمت محتال؟ بأي معنى؟ على نفسي أم على الآخرين؟ كان عصمت يقول لي أنا أن الحكمة تشبه حشرةً مسحوقة تحت حجر. كيف يا عزيزي عصمت. كنت أجيب: أقول ذلك لأنه لا حكمة في هذا العالم فالكائنات تتقاتل لا لأجل البقاء بل ضد البقاء وهي عندما تحب بعضها تقتل بعضها لا لأنها تكره ولكن لأن التواصل هو القتل. بدأت هذه الآراء تظهر على لساني مؤخرا ولم أعرها أهميةً لأن إيماني باتزاني كان أكبر من أي كلام يصدر عني.

احتيال؟ ماذا يفيده ادعاء أن “عمري” مائتان وسبعون سنة؟ أسأل نفسي.

أنا أبتسم لا كماكر ولكن كخبير بمكر الآخرين. فقد خبرتُ عصوراً ومجالس وحوانيت لبيع الأفكار والتفاح.

أنا لستُ عبقرياً قلتُ لأقرب امرأة إليَّ ولكني شخص ذكي. العبقرية هي الذكاء الذي لا حواجز أمامه. وأنا يواجه ذكائي من داخله كتلاً إسمنتية ضخمة تقف حائلاً أمام انطلاقي نحو العبقرية. كأنها الكتل التي تشبه السدود الحديثة، سدود عالية تجعل الطبيعة خائفة وهادئة بل ميتة. العبقرية التي لا أصل إليها منذ مائتين سبعين سنة تجعل من ذكائي أرضاً بائسة.

أنا عصمت الفتى، الرجل الرجل، العجوز الرجل، الفتى الفتى، المجنون العاقل. دعوني أنظر قليلا في مسألة جنوني هذه: ما أنا فيه هل هو ارتياب العقل من العقل؟ إذن ذروة العقلانية، سمعتُ عن رياضيين كبار في الرياضيات كانت تنتابهم هلوسات أبعد ما تكون عن جفاف الأرقام. ولكن الإنترنت نفسها هي لاشيء سوى الأرقام وأنا ارتيابيٌ في علاقتي بنفسي.

***

*”نشيد الأنوثة” كتاب جديد لجهاد الزين صادر حديثًا عن دار نلسن-بيروت 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *