ريمون شبلي و… أسرار الشِعر

Views: 497

أنطوان يزبك

 

في الحصار، تكون الحياة هي الوقت، بين تذكّر أوّلها و نسيان آخرها.

حالة حصار- محمود درويش

 

ريمون شبلي في شعره وعلى مدى أعوام متواصلة، سلك درب الكلمة في اطارها النسكي وتجليّاتها الروحيّة، وسكن صومعته بشغف العابد بيد أنّه لم يعرف حصارا إطاره الوقت والزمن، كالذي تصوّره محمود درويش تذكرا أو نسيانا !

لقد جعل ريمون شبلي حياته تتغذى من عناصر الشعر وعوالمه السحرية وآفاقه المترامية واللامحدودة،هذا الشعر الخالص، النقي، عسل ملكة النحل كما في إكسير الآلهة، تلك التي ولدت كرونوس ومنه ينداح الوقت،حيث تتغذى الذاكرة المترابطة بنياط الصور والأفكار المتسابقة في ظهورها الجليّ المنطبع في مقامات الشعر والجمال.

ريمون شبلي حين يكتب يتعهد شعره وكتاباته، بعطف نادر كما الصائغ في سبك الحلي والأم مع الوليد، والكاهن مع القربان، في شعره ما يحاكي الذبيحة الإلهيّة، إذ نرى ريمون شبلي يرفع قصيدته، كما الكاهن يرفع الكأس عند التكريس  ففي كل قصيدة ارتفاع وتجلّي، كما يتقدس الخبز والخمر ويحلّ الروح فتسقط القداسة على القصيدة ويتمّ الارتفاع والارتقاء!

من هذه النماذج القدسيّة نقرأ قصيدة متقدّمة عنوانها النسكيّة الرائية، في أبعادها التجاوزية اللاهوتية العابقة بروح الله :

في صومعة الصمت والصلوات

في تلك العزلة عن صخب الصاخبين

حيرة الحائرين

وضجيج الحياة

لا وجه يخيّم فوق منارته

غير وجه الله. …

نشعر في كلماته هذه، ذروة النسك، آية انحدرت من سماوات سرمدية وحالة نيرفانا، تشمل الناس أجمعين ومن قبلهم الكون والأجرام العلوية !

 

وفي قصيدة “أشدو وأشتاق” ؛ نصغي إلى تأملات أكثر خصوصية إذ يقول ريمون شبلي:

في البعيد

خلف أطراف الوجود

أبصر الصمت صلاة وخشوع

أبصر النور صدى نور يضوع

ويشيع

في مسافات الخلود ..

هي الصلاة عينها في حضرة الألوهة، تأتي مطلقة في بعد  الخلود والسرمد؛ وهنيئا لكل عابد مسترسل في تتبع هوى الخالق الرحمن في منتهى الروعة والغبطة الطوباوية، في معابد الذات التوّاقة إلى ولوج السماء السابعة وسدرة المنتهى.

وربّ سائل في زمن تهافت الشعراء والشعر كما سبق وتهافت الفلاسفة عن سابق تصميم، عن مصدر كل هذا التدفق، وما هي الدوافع الأساسية، ليقول الشاعر ما يقوله؛ فنقع على مقولة ل أندريه شينيه يصرح فيها:

العقل ينظم الشعر

والقلب وحده هو الشاعر!

أما ريمون شبلي فيقول ردا على سؤال؛ ما الذي يميّز الشعر عن النظم؟

كما خروج المياه من النّبع أو إخراجها من البئر!

الشعر، يقول شبلي متابعا؛ نبع يتدفّق تلقائية فوّارة وبساطة سلسة، من دون إجهاد الذات ولا ضربها” على الظهر” حتى تخرج ما في داخلها..

أما البئر فتضرب وتغتصب وتشقّ، حتى تستخرج منها ألمياه عنوة !

إن أنت نبع فأنت شاعر، أو لا، فأنت بئر .

الشعر ينادي الذين هم ينابيع تعالوا إليّ فأنتم  أولادي حقا..

لا أجد رأيا أكثر نفاذا من هذا الرأي، ولا حضورًا يضاهي حضور ماهية الشعر الحقيقية، الكفيلة بفرز القمح عن الزؤان. ..!

ومن ناحية أخرى يقول أحمد شوقي :

لا يزال الشعر عاطلا حتى تزيّنه الحكمة، ولا تزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر!…

في شعر ريمون شبلي وحي وعقل وحكمة، شفافية وموسيقى، إحساس وترفّع، صلاة وقداسة، نسك وابتهالات سامية قادمة من صمت معابد وبخور وترانيم وفوق كل ذلك رأي سديد ومواقف مشحونة بالإيمان وانقشاع لكل سواد الوجود وحلول النور محل الظلمة ، ها هو يقول في قصيدة؛ يفي نذره اليراع :

يعتلي بعض الليل جوف السراج

يستفزّ اليراع …يا للدياجي

تتدلّى، في الذات، ريشة قنديل

تخطّ الرؤى مرايا انبلاج …

قداسة وورع ريمون شبلي، وحكمة أحمد شوقي، رافعة مشرّفة وكلمة راقية في عالم الشعر وأسراره !!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *