سجلوا عندكم

“المصدر”… من “نشيد الأنوثة” لجهاد الزين

Views: 461

جهاد الزين 

 

 قصة قصيرة من ”نشيد الأنوثة”  الصادر حديثًا عن دار نلسن-بيروت 

 

ما يُسمّى الإروتيكا، ولم أعثر على اسم أفضل (ربما الشهوانية غير الخلاعية) كيف تنطلق صيحاتُها من جسد امرأة رائعة من الجزء نفسه من جسدها الذي يُطْلِق صيحات الطيبة والعذوبة الكاملة للنوايا الفاضلة.

الشهوة والطيبة، الشهوانية وحسن النيّة، الشهوانية الهائلة والملائكية الأنقى من مصدر واحد، حصن واحد. كيف لكل ذلك أن ينبعث من قدس أقداس امرأة واحدة ولا تكون مذهِلةً؟ أهو الجسد الذي يحتفظ بكل أسراره المتماوجة في أفق الاحمرار  البركاني الذي يسبح فيه العاشق المحظوظ ويحترق بصراخ الصمت فوق أسرجة الخيول اللماعة الصاهلة؟

كانت تعبر متعبةً في الطابق الأول من الفندق القديم حين التقاها تماماً في سعادة النظر، نظرِه، إلى الكائنة التي يخرج قليلا ثديُها الأيمن عن احتشامه مستفيداً من تساهل الثوب الحريري وراحلاً إلى فضاء المعبد الرصاصي… سيسمع وحده غناء الملائكة ويرى الآلهة تنسحب حين ستبتسم له في مزيج الطيبة والشهوانية الذي يحوِّله إلى أسعد عابر في الكون. البنفسج يغطّي السقف وسيمدّ يده ليشد كفَّها نحوه. وستبتسم معترضةً صاغرة كأي استسلام لا يتردّد ولكن يتمهّل.

إنه المصدر. الينبوع الأعمق للكون والمشاعر. تتحرك شفراته الخارجية فتتسمّر عيناه في ذهولهما الماطر.

إنه المصدر حيث البداية ولا نهاية لكل ارتجاف وولادة ارتجاف يخفق في اللامحدود من الأفق الأضيق  في العالم والأوسع من أي حنين لاهثاً ومحروماً وخائفاً أن يفقد موسيقى شفراته.

لا مجال لإضاعة الطريق في المتاهة الأجمل. وليس سوى ألسنة الغزلان ليس سواها تتناغم داخل المشروط القاني المستفز للروعة والانقباض الخلاّق.

احتمال يقاتل احتمالاً، لا مجال لاسترخاء الشفتين، في مقبض الفم القصي أنت تغني مع الله في وصلة مشتركة وتستأنف انبهارك على أول مدار.

إنه المصدر ويا حسرتاه على الفرح الفائض حين تغمرك البحيرة الأعلى وتكويك مراتٍ الثلمُ المتعاقبة فوق الحلم.

ستأتي نهايتك الآن وتتراجع إلى الأبد بينما يستمع عَضَلُكَ متأهباً إلى استغاثة الشوق الأبعد والأقرب كما في شرايين لغة ستولد في انفجار المتعة في عينيك المغمضتين. وستحصل ألطفُ شراهةٍ للموت.

السواسية أو الثنائية التي لاسواسية فيها والتي تفيض بكرم الوجود على جسدين في جسد واحد، جسد واحد في جسدين، انحلال المسام حول الذي لا يوصف من المشاعر والمسمّى خطأً اللذة، هي المتعة التي يتبادل فيها المتبادِلان والمتبادَلان ما هو ألذ من المتعة وأمتع من اللذة وينفرد واحدُهُما مع جسده جسدها، لا نفْسه، إلى حيث لا مسافة بين الموت والحياة، القوة والضعف، المنحة والانمناح.

غناء للمصدر، دعاء للمصدر، ابتهال للمصدر، تعاويذ للمصدر ولا مصادر للمصدر سوى المصدر.

هناك حيث لا يُرى ضوء الجنة الساطع، الاحتفالات الكامنة في ضوضائها الشبقة والأكثر اختباءً في الكون ينزف المصدر لهبَهُ المجنون. المصدر يستدعي نفسه إلى اختمار النهائي الذي سيليه فرح الأخذ والعطاء الملتقيين في الجرح الأكثر كرماً ورحابة وتقلصا. الغزال الهارب كل ثانية ليستسلم كل ثانية إلى  مصيره ومصير مصيره.

المصدر حين يتحرك باحثا عن الاكتفاء الكامل لن يقف عند الاكتفاء الكامل بل سيواصل الهجرة إلى الأكمل المستحيل. وسيقبض على أسيره السعيد حتى انفتاح السماء عن جدارها المحْكَم. انفتاح الزرقة على زرقتها الأصفى والأصخب.

وحده المصدر من كل المخلوقات نَحَته الخالقُ من الصخر وظل يرقرق فيه حتى خرج عن حدود الكائنات. الرقة التي تتجاوز الماء والغلاف الفضائي. الحجر المذهل في صحراء العالم وفيه الينبوع المقدّس الأعمق. إنه المنحوتة التي خلقت إزميلَها. المنحوتة التي عَضَلَتْ إزميلَها فجعلته كاهنا وكافرا ومشعوذاً وشاعرا وتنّينا. المنحوتة التي لا فائض فيها سوى الفائض المستمر للمشاعر. مكامن وملامس ومباهج واحتفالات للصمت واللهاث والانبهار. عشق الله منحوتَتَه فجعلها سرا فريدا في كل منها ونشرها حميميّةً معبودةً على المليارات. المصدر لا يشبه إلا نفْسَه. ولا يُشْبِهُ شَبَهَهُ لأنه هو وحده متوحّدٌ في جنونه العضلي.

يهرع الضوء إلى مكانه غير الموثوق وينحاز الفتات الملوَّث بالزئبق الأزرق إلى الملاعب المسماة ملاعب الحياة. هي ملاعب ليست بعيدة عن جسدي الحر جسدي العبد، ولكنها قريبة إلى حد الانفصال. ما الذي يطرأ على التهوّر الجليل للأفكار وأنا أمدّ ذراعي إلى الزنزلخت المهمل في المدينة حيث تجري لقاءات بين فكرتين صامتتين لامرأةٍ حالمة، لامرأةٍ مدهشة ولكنها قنوعة بما يمكن أن يفعله الهمس اللاهث. هنا القناعة هي النسيان الفوري لما سبق والدخول الفوري في شفير المشاعر المشفّرة حيت يتأوّه المصدر.

سلامٌ على المصدر أُمِّ المصادر.

سلام على الأنين العذب القاطع.

سلامٌ عليكِ.

يا مصدر النتوءات، يا اقتراب الموج من الموج والحار من الحار والنار من النار والشفرة من الشفرة. أعْضِلْ صلاتَك وقِفْ عند الباب. بعيدا بعد الباب وكن سليل الجزر القاتلة. فلا شطآن على المصدر بل  الإبحار. ولا عودة بل نهاية. موتٌ سعيد يأتيك مطفَأً ثم يشتعل حتى نهاية لا نهائية تتجدّد مع المصدر وفي المصدر.

كادت التماثيل الإغريقيّة أن تُنطِق الحجر فيعادل المصدرُ المصدر. ولكنه لن يعادل ولن يساوي حيث  لا اشتقاق للصخر سوى حليبه الراشح من الصلد. النحّات الأعلى وهو يحرّك إزميلَه شَغَلَتْهُ وأَقْلَقَتْهُ فكرةُ الغوص الأبعد، الإبحار الأبعد، المسافة التي تتوالد وهي تصطدم الاصطدام الأعذب والأنقى والأقوى والأصلب، الضد الأكثر إلفةً وخصباً في الكون، الهاتف المذهل قبل الانذهال الألذ والاستعداد المتأهِّب بما لا يعادله تأهبٌ سوى التأهب، أيها المطرُ الآتي أُهْطُلْ ولا تهطلْ سوى على الشفير الحالم الذي لا يكذب ولا يموت “كجلمود صخرٍ حطّه السيل من علٍ”.

إنه المصدر الذي يصادر وهو يعطي ويُصادَر وهو يصادِر ويعطي وهو يستبد، لا علاج سوى بكاء الرجل وصراخ المرأة بكاء الاحتمال الذي لا يُحتمل.

الحجر المترقرق يطلِق أخيلة. في فضائه يظن العاشق أنه بركان عاقر. ما هذا الجمر المتحدِّر الذي سيحرق متاهاتك ويوحّدك مع نفسك في الهذيان المطلق والأكثر وعياً. ستلغي أفعال التفضيل وستتعبّد لمسةً لمسة في التفضيل بلا أفعال.

هو هنا خارقاً حارقاً مانحاً حاجباً صاغراً قانعاً متمرّدا حنونا ساخناً واجفاً…. الكون في ولايته الثانية وعهده المتجدِّد.

***

وقف عصمت مذهولاً أمام المصدر المكتنز والناتئ بتحدٍ. سجد على ركبتيه وضمّ كفّيه إلى وجهه متمتماً كلماتٍ تبدو في حالته نوعاً من الصلاة غير المسموعة. ابتسم المصدر وامتدّت يدٌ نسائية استدعاها المصدر من جهة ما لتبارك عصمت لمساً دون كلام ثم تشد رأسه الناظر بذهول إلى مكان واحد وتقرّبه من المصدر الذي لامسته شفتاه.

***

لا غيرة بلا المصدر، مركز الكون بأعمق  وأقوى من نظام الجاذبية، هو الجاذبيةُ في الجاذبية. هو جاذبية الجاذبية، لَهَف الجسد إلى ما قبل الجسد وإلى تجسيد الجسد السعيد تلك السعادة الأبدية الجنة الموعودة في أعلى انوعادها وطوفان البحبوحة الخسيف تحت اللامجهر.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *