“أنا” المَهزومة
الدكتور جورج شبلي
من حَقِّ الـ ” أنا ” أن يَبتَلَّ خَدّاها إِذْ أَنشَبَت فيها شمسُ الخَيبةِ المُحرِقة أَظافرَها، ونشرَت أمامَ عينيها ضَباباً كَمِثلِ أشرعةٍ بغيرِ مَراكِب. وهي المُتَوهِّمةُ السَّرابَ حقيقةً، تتابِعُ الرَّكضَ خَلفَه، فيجِفُّ حَلقُها، ويذهبُ العطشُ ببعضِ عقلِها، وتسعى الى الماءِ فلا تجدُ نفسَها إلّا أمامَ رَملٍ كاذِب.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تتمرَّدَ على خيبتِها، لتتكرَّرَ المعاناةُ، مرّةً بعدَ مرّة، وتتمادى بها التخيّلاتُ الموحِشةُ بأَطيافِها، وأشباحِها، فتنفصلُ عن حلمِها المليءِ بالليل، هذا الذي يُنذرُها بالجفافِ فتدورُ عيناها في رأسِها مَذعورَتَينِ، وهي مُحتفِلَةٌ بعذابٍ يطمئنُّ الى دَوامِه.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تبكي، فالحسرةُ حفرَت في قلبِها أَثلاماً من لَحمِها، وواجهَت جَفوةَ الحظِّ فتغلَّبَت عليها نزعةُ الهزيمةِ الملوَّنةِ بالشّكوى والنّقمة، وانتابَها الشّعورُ بالقَلَق، فالزّمنُ استخدَمَ أَجرَحَ أدواتِ حقدِهِ ليجعلَ منها أَحدَ أكبرِ مَلّاحي سُفُنِ الحزنِ في الدّنيا.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تُسَطِّحَ رقبتَها تحتَ شَفرةِ المقصلة، ففشلُها في ترميمِ آليّاتِ الأملِ دَحَرَجولاتِ النّور، وسحقَ الإيمانَ بأنّ الرّجاءَ ينقلُ الجِبال، وعيَّشَها لَعنةَ الإغترابِ عن كتلةِ الحياةِ وكأنّها مَيتَةٌ وإِنْ لم تُقبَر.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تقتنعَ بأنّ أَخبثَ الشَّجَرِ هو ذاكَ الذي يُثمِرُ النّاس، وأنّ أيَّ إكسيرٍ لن يُحيِيَ رميمَها القابعَ في أبديّةِ الإنتظار، ولن يستمهِلَ سقوطَها المُتَتابَعَ في قُطبِ العَتم، وقد اختارَ لها من الطّقوسِ حزنَ الذّبائح، يندبُ فيها بَعثَ الفرحِ فهو، عندَه، خُرافة.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تسخرَ من نهائيّةِ القِيَم، فهي سطحٌ بغيرِعمق،وامتيازٌ لأخلاقِ الخطيئةِ التي بِلا تُخوم، وضجيجٌ يستعرُ وكأنّه سطورٌ في صحائفِ الرِقّ. والغَلَبةُ، في النهايةِ، لطلائعِ إبليسَ الذي رفعَ الوُلوعَ برموزِ الذّنوبِ الى مستوى الحُرمَة.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تبقى مفطورةً على طبيعةِ الغاب، تُخاصِمَ نفسَها التي وَرِثَت، معها، علاقةً إضطهاديّة، ولم تُقَدِّمْ نقلةً للخروجِ من مأزقِ هذه العدائيّة، فغِلالةُ صَحوِها رقيقة، وقرارُها مُربَكٌ بالإنطوائيّةِ التي تمنعُ عنها نُضجاًينفضُ حالةَ النِّزاعِ.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تصبغَ وجهَها بلَونٍ قاتِم، وكأنّها من أربابِ السّوء، فلطالما كابدَت معه القُروحَ، وتركَت أنينَ الرّمادِ ينسجُ في مسمعِها لَحناً مكسوراً، وكأنّ الحريقَ قَدَر. وذهبَ بها وجهُها الى دنيا الجُدرانِ حيثُ يختلطُ دَوِيُّ الإنكسارِ بِدَوِيِّ الدَّمع، فلا تعودُ تعرفُ أيَّ الدَوِيَّينِ غلبَ الآخر.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تتطاولَ على تلاوةِ الصلاة، فقد حملَت حَطَبَ عمرِها الى مِنبرِها، علَّها تشهدُ إعادةَ صَهرِ كيانِها من رِزقِ الإبتهال، فاستغلَّ، هذا، هُزالَها، واقترعَ على ما تَبَقّى لها من ثِياب، وألقى بها عندَ عتباتِ الحُفَر، وفرَّ الى جهةٍ مجهولة.
من حقِّ الـ ” أنا ” أن ترفضَ تَقَصّيَ القَدَرِ الذي يوقِّعُ خُطاه بسَيفِه، ويمنعُ تَوقَها الى مَخرَج، ويُدَفِّعُها، وحدَها، ثمنَ تلكَ الخطيئةِ الأصليّةِ لتخلدَ في العذاب. فكيفَ لاتشعرُ بالإحباطِ، والكآبةِ، وعواطفِ الأسى، والخوف، والتمزّقِ النفسيّ، وتهجرُ حضنَ الرّبيع، ليبقى عمرُها جرحاً صالِحاً للنَّزفِ في كلِّ لحظة!!؟؟
من حقِّ الـ ” أنا ” أن تحملَ تحتَ إبطِها تصريحاً يمنحُها الحقَّ في أن تعيشَ في عالَمِ الأَفاعي، ما دامَت ستظلُّ فيه معتادةً على اللَّسعات.