الملح على الجرح ذكرى انفجار المرفأ
د. قصي الحسين
عامان على إنفجار مرفأ بيروت، ولا من يتقدم من سيدة العواصم، يمسح لها الجرح. يبلسمه حتى تعود إلى النبض من جديد. الإهراءات تنهار، والتحقيق معطل. وكأن الذين شاركوا في تفجيرها، كانوا قد أخذوا القرار بإعدامها.
ها هم اليوم، بعد مرور عامين على الرابع من آب المشؤوم، يفتون الملح في الجرح، حتى يظل نازفا، فلا تتوقف مسيرتها في التساقط والموت، عند حد.
مدينة قرعت لها العصا منذ أول الدهر. فككوا فيها الدولة، وأرسلوا وراءها الميليشيات، تغتالها، شارعا شارعا. وطائفة طائفة. وحيا حيا، ومحلة محلة. حتى باتت لحما على وضم. فإستبيحت كرامتها وكرامة ناسها، وسيقت إلى الإعتقال والسجن.
لم يكن إنفجار المرفأ، إلا ذروة الإنفجار. ذروة الإستلاب. ذروة القهر. ذروة الموت. صارت سيدة العواصم تعيش الموت يوميا، في الذروة.
قطعوا عنها الماء، فلم تعد تشرب. قطعوا عنها الكهرباء، فلم تعد ترى. وسرقوا الذهب من تابوتها. من أسنانها. عاثوا فسادا في المقبرة التي دشنت لها. فصار السطو على الأضرحة، وعلى سقائف الأضرحة. وعلى باحات الأضرحة. وعلى الساحات وفي الطرقات. وفي البيوت المشلعة.
يدخل إليها السماسرة مع الظلام. يفتشون في ظلمة القبور، عن خاتم العروس، الذي ضاع تحت الركام، غب إرتكاب المجزرة.
يدخل إليها السماسرة مع الصباح. يفتقون منها جروحها الملتئمة. يرشون فوقها الملح، حتى تعود إلى النزف من جديد. حتى تموت مثل أشجار أسوارها، واقفة.
“4 آب-2020″، إتخذ القرار بتفجير المدينة. دخلوا إليها في أحصنة كثيرة. كلها من “موديل” حصان طروادة. يريدون قتل الناس في الشوارع في الساحات في الباحات، داخل بيوتهم. وفي القلاع. يريدون أن يشربوا من دمهم على الطرقات. يريدون القتل للقتل، مثل كل المجازر التي قادها المتعطشون للدماء. مثل كل المجازر التي تقدمها السماسرة، يعرضون بيع الرؤوس وبيع الجلود. وبيع القبور، قبل وصول الجثامين في الليل البهيم. فهلا عرفتم، لماذا يفتون اليوم، الملح في الجرح، بعد عامين على الإنفجار.
هلا عرفتم، لماذا لا تعلق الحبال على الأعواد في الساحات، ويساق إليها المتلبسون بجرمهم. يساق إليها المجرمون. هلا عرفتم، لماذا لا زال المتواطئون على القتيلة، يتهربون من قوس العدالة.
هلا عرفتم، لماذا لا تزال صوامع القمح مشتعلة، من الصباح حتى المساء. نيرانها لا تنطفئ. تذرف دمها. تذرف دمعها، قمحا، تخبئه في بطون الطير، حتى لا يأتي إليها المجرمون خلسة، مرة أخرى، فيغتالوا ما تبقى فيها من صور الحياة.
عامان على تفجير قلب بيروت. على تفجير مرفأ بيروت. على تفجير مؤسساتها. مستشفياتها. مدارسها. حوانيتها مصارفها. داراتها. ولم ييأسوا بعدوا منها. يتابعون موتها يوميا، بأدق التفاصيل. حتى بات الموظف لا يستطيع الوصول إليها. حتى بات أهلها جوعى، يتشهون الرغيف في أفرانها. حتى بات مرضاها، لا يجدون الدواء ولا الطبيب ولا الممرض. طووا عليها شرشف البحر. الشرشف الأبيض. شرشف الموت. هل تذكرون. ثم قالوا لها: موتي، كما ماتوا أهلوك. موتي كمدا.
مفجوعة بيروت هي الآن. مفجوعة، لا تزال بعد عامين على نكبتها. بقروا بطنها العروس، ولم يستطيعوا قتلها. لا تزال أشلاؤها في الأرض. لا تزال الصوامع تنزف دمعا وقمحا. لا تزال الطيور زائغة في سمائها. ولا تزال الطواغيت تمعن في ذبحها، من الوريد إلى الوريد.
الطواغيت تساوم عليها اليوم، وهي في الأرض. يرشون الملح على الجرح، لعل النزف يقتلها. سماسرة. حثالة من الخونة. باعوا أنفسهم لشياطين العصر. دخلوا معهم في تجارة خاسرة.
عروس المتوسط، شرقيه، وغربيه. عروس العواصم كلها. كل يوم يزيدون في فتق جروحها، حتى لا يبقى شريف على أرضها.
إنفجار الرابع من آب-2020، إنما هو إنفجار عصر. إنفجار قرن. إنفجار يومي. إنفجار مئوية، يهيء للإنفجار المئوية القادمة. يمعن الطواغيت حتى اليوم في رش الملح على الجرح. فلا حاكم. ولا حكومة. ولا محكمة. سطوا على ناسها في وضح النهار. قالوا لهم بالفم الملآن: مكلفون بقتلكم، حتى القرار الأخير، ببيع جميع الحقول. ببيع العرائس. ورهن الشباب. ورهن البلاد للأجير.
الرابع من آب-2022، طبعة مزيدة. منقحة. عن قرار إتخذ، لمتابعة موت بيروت، والتأكد من قتلها، قبل تقرير المصير.