سجلوا عندكم

كل ما يتجاوز الوعي في “الكينونة والعدم” لـ جان بول سارتر

Views: 463

وفيق غريزي

يميز سارتر بين الكينونة في ذاتها، والكينونة لذاتها، في كتابه “الكينونة والعدم”. فالكينونة في ذاتها هي اولا كينونة هذا الكون اللامتناهي الذي يتميز بالخارجانية اللامباليةالموجودة في ذاتها بمعزل عن كينونة الوعي. كذلك، فهي كينونة كل ما يتجاوزه الوعي على مستوى الداخلانية الذاتية.

إن كينونة الوعي هي لذاتها، لأن الوعي يعي ذاته كما يعي العالم الخارجي، انه الوجود بالنسبة الى ذاته، ولأجل ذاته بسبب انعكاسيته. وهو يشكل صلة الوصل بين الفينومينولوجيا والانطولوجيا من حيث هو كائن – لذاته، فان الوصف الفينومينولوجي للظاهرة كما تبدو للوعي يرتبط بالانطولوجيا التقليدية التي تنطلق من التأمل في الكون، ويحاول سارتر أن ينطلق من الكوجيتو، اي من تركيبة الوعي ليقدِّم البرهان الانطولوجي الذي يثبت الحقيقة الموضوعية الظاهرة.

 

البحث عن الكينونة

لا يستند الظهور الى أي موجود مختلف عنه، له كينونته الخاصة به. إن الكائن الأول الذي يلقاه سارتر في ابحاثه الانطولوجية هو اذًا كينونة الظهور، فهل هو بحد ذاته ظهور؟ يبدو ذلك في أول الأمر، والظاهرة هي ما يتجلى، والكائن يتجلى بطريقة ما للجميع، بما اننا نستطيع يقول سارتر “أن نتحدث عنه ونفهمه بشكل أو بآخر. وهكذا، لابد من أن تكون هناك ظاهرة كينونة، اي ظهور كائن يمكن وصفه من حيث هو كذلك”.

ستنكشف لنا الكينونة بطريقة توصلنا اليها مباشرة: الملل، الغثيان، ستصبح الانطولوجيا توصيفا لظاهرة الكينونة كما تتجلى، أي من دون وسيط. إلا انه يجدر بنا أن نطرح على كل انطولوجيا سؤالا مسبقا: هل ظاهرة الكينونة التي نصل اليها بهذه الطريقة، مماثلة بكينونة الظواهر؟ أي، هل أن الكائن الذي ينكشف ويظهر لنا هو من طبيعة كينونة الموجودات نفسها التي تظهر لنا؟ وحسب رأي سارتر يبدو أن الاجابة غير صعبة، ويشير الى أن هوسرل قد برهن كيف أن الرد الايدوسي هو دائما ممكن، أي كيف يمكن دائما تجاوز الظاهرة الملموسة وصولا الى ماهيتها، والواقع الانساني هو بالنسبة الى هايدغر موجود انطبقي عيني وكانت انطولوجيا، أي أنه يستطيع دائما أن يتجاوز الظاهرة باتجاه كينونتها.

اذا كانت كينونة الظواهر لا تتحول الى ظاهرة كينونة، واذا كنا لا نستطيع على الرغم من ذلك ابداء رأي بشان الكينونة الا بالرجوع الى ظاهرة الكينونة هذه، فلا بد قبل كل شيء من تحديد دقيق للعلاقة التي تربط ظاهرة الكينونة بكينونة الظاهرة، وسوف يمكننا القيام بذلك بسهولة اكبر اذا اعتبرنا أن مجموعة الملاحظات السابقة قد اوحى بها لنا مباشرة حدس كاشف لظاهرة الكينونة، يقول سارتر: “فنحن حين قمنا بمقارنة الكينونة من حيث هي ظهور يمكن تثبيته عبر مفاهيم، وليس الكينونة من حيث هي شرط للكشف، فهمنا قبل كل شيء أن المعرفة غير قادرة وحدها على تفسير الكينونة، وهذا يعني أن كينونة الظاهرة لم يكن ممكنا تحويلها الى ظاهرة كينونة”.

إن ظاهرة الكينونة هي باختصار انطولوجية بالمعنى الذي نقصده حين نطلق على برهان القديس انسلم وديكارت صفة البرهان الانطولوجي، انها نداء الكينونة، وهي من حيث كونها ظاهرة تقتضي اساسا ترتكز عليه ويكون متجاوزا للظواهر، أي أنها تقتضي كينونة متجاوزة للظواهر، ذلك لا يعني أن الكينونة تختفي وراء الظواهر، ولا أن الظاهرة هي مظهر يدل على كينونة مختلفة عنه.

 

الحضور عين الذات لذاتها

إن السعي يحيلنا الى الحرية، والحرية الى خداع النفس، والخداع النفسي يحيلنا بدوه الى كينونة الوعي بوصفها شرط امكانه، ويؤكد سارتر أنه يجدر بنا أن نستأنف ذلك التوصيف الذي كان قد حاول القيام به في مقدمة الكتاب، وذلك في ضوء المطالب التي حددها سابقا. أي أنه ينبغي الرجوع الى مجال الكوجيتو القبل تنكري، لكن الكوجيتو لا يقدم لنا اطلاقا ما نطلبه منه. واشار الى أن ديكارت قد قام بمساءلة الكوجيتو عن مظهره الوظيفي، “انا اشك، انا افكر”، لكنه اخطأ في تحويله جوهرًا، لأنه اراد أن ينتقل من المظهر الوظيفي الى الجدلية الوجودية، من دون دليل يوجهه. والواقع أن عين الذات لا يمكن ادراكها من حيث هي موجود واقعي، فلا يمكن للذات حسب اعتقاد سارتر الفاعلة أن تكون ذاتا، ذلك أن الاتحاد بالذات يلغي الذات، لكن الذات لا يمكن الا أن تكون عين ذات كذلك، لأن عين الذات يقول سارتر: “هي دلالة على الذات الفاعلة نفسها”.

تمثل عين الذات اذن مسافة مثالية في تلازم الذات الفاعلة مع ذاتها، وطريقة قد تتطابق مع نفسها، وبتفلت من الهوية، في حين انها تطرح هذه الهوية كوحدة، وتكون باختصار “خاضعة لتوازن غير ثابت باستمرار بين الهوية من حيث هي اتحاد مطلق من دون اي اثر للتنوع، وبين الوحدة من حيث هي تركيب للعناصر المتعددة. فهذا ما سندعوه الحضور تجاه الذات”، اما قانون وجود ما هو لذاته من حيث هو اساس انطولوجي للوعي، فهو أن يكون ذاته في شكل حضور تجاه ذاته.

 

وجود الآخر

إنه لأمر غريب أن تكون مشكلة الآخرين لم تشغل حقا الفلاسفة الواقعيين، بمقدار ما يعتبر الواقعي أن كل شيء يأتيه من الواقع الخارجي، يبدو له من دون شك، أن الآخر موجود ضمنا في الواقع. وفي صميم هذا الواقع، أي شيء هو بالفعل اكثر واقعية من الآخر. إن جوهر مفكر لديه الماهية ذاتها، التي لدي، ولا يمكنه أن يتلاشى عبر تحوّله الى كيفيات ثانوية وكيفيات اولية، ويجد سارتر بناه الاساسية فيه هو، الا أنه بمقدار ما تحاول الواقعية تفسير المعرفة بواسطة تأثير العالم في الجوهر المفكر. فهي لا تهتم باثبات التأثير المباشر والمتبادل بين الجواهر المفكرة؛ هذا التواصل في ما بينها يحصل بواسطة العالم: “إن جسدي، كشيء في العالم، وجسد الآخر هما الوسيطان الضروريان للتواصل بين الوعي لدى الآخر ووعيي انا”.

إن المسافة التي تفصل النفس لدى الآخر عن نفسي، هي المسافة ذاتها التي تفصل اولا نفسي عن جسدي، ثم جسدي عن جسد الآخر، واخيرا جسد الآخر عن نفسه. وحسب رأي سارتر، اذا لم يكن مؤكدا أن علاقة ما هو لذاته بالجسد هي علاقة خارجانية، فواضح على الأقل أن تكون علاقة جسدي بجسد الآخر هي علاقة خارجانية خالصة لامبالية. اذا كانت النفوس منفصلة عن بعضها بواسطة اجسادها، فهي تتميز من بعضها كما تتميز هذه المحبرة من ذلك الكتاب، أي أنه لا يمكن تصوّر أي حضور مباشر لاحدى هذه النفوس تجاه الأخرى، حتى لو اقرينا بحضور مباشر لنفسي تجاه جسد الآخر، كي اصل الى نفسه مع كل كثافة جسده هذه. واذا كانت الواقعية تؤسس يقينها على الحضور المباشر للشيء المكاني -الزماني امام الوفي، فلا يمكنها أن تطالب بالوضوح اليقيني ذاته بالنسبة الى واقع النفس لدي الآخر،لانها تقر بان هذه النفس، لا تتجلى مباشرة لنفسي. وحسب اعتقاد سارتر، فانها غياب ودلالة، والجسد يشير اليها من دون أن يكشفها ويسلمها، وباختصار، لا يوجد في الفلسفة المرتكزة على الحدس أي اشارة لحدس يدرك النفس لدى الآخر. لكن بعيدا عن أي تلاعب بالالفاظ، ذلك يعني أن الواقعية لا تترك لي مجالا لادراك الوعي للآخر، ولا جدوى من القول أن جسد الآخرى على الاقل معطى بالنسبة الينا، وانه بمثابة حضور للآخر او لجزء من الآخر.

 

العلاقات العينية بالآخر

كل ما يصلح لي يصلح للآخر، هذا ما يؤكده سارتر الذي يضيف :”حين احاول التحرر من تأثير الآخر يحاول الآخر أن يتحرر من تأثيري، وحين اعاود أن استعيد الآخر يحاول الآخر أن يستعيدني”. ليس المقصود هنا اطلاقا علاقات احادية الجانب بموضوع في ذاته، بل علاقات متبادلة وغير مستقرة. ينبغي اذاً أن ننظر في الاوصاف الآتية عبر منظور الصراع، الصراع هو المعنى الاصلي للوجود – الآخر.

اذا انطلقنا من الانكشاف الأول للاخر عبر النظرة، علينا الاعتراف بأننا نختبر وجودنا للآخر غير القابل للادراك، من حيث أنه يتخذ شكل الامتلاك، فالآخر يمتلكني، وان نظرته التي تعيد تشكيل جسدي في عريه، فالآخر يحتفظ بسر: “انه سر ما أنا عليه، والآخر يجعلني موجودا، وبذلك فهو يمتلكني، وليس الامتلاك سوى وعيي بأنه يمتلكني. وانني عبر اعترافي بموضوعانيتي، أشعر أن لديه هذا الوعي بامتلاكي.

ويقول سارتر “من حيث أن المثال الاعلى الذي يتعذر تحقيقه، يلازم مشروعي المنطلق من ذاتي في حضور الآخر، فانه لا يمكن تشبيهه بالحب من حيث هو مشروع او مجموعة عضوية من اندفاعات منطلقة من ذاتي نحو امكانياتي الخاصة”، لكنه المثال الأعلى للحب، والحافز له، وغايته وقيمته الخاصة. وبوصفه علاقة بدائية بالآخر، فان الحب هو مجموعة الاندفاعات المنطلقة من ذاتي التي استهدف بها تحقيق هذه القيمة.

إن فكرة “الملكية” التي غالبا ما تستعمل لتفسير الحب، كما يرى سارتر، لا يمكنها أن تكون بالفعل، فالفكرة الأولى التي ينبغي الانطلاق منها: “لماذا لا يمكنني أن اريد امتلاك الآخر أو لم يكن هو الذي يجعلني أريد ذلك “، وانه يريد أن يمتلك كائنا اليا، واذا اردنا اذلاله يكفي أن نصوّر له أن الشغف الذي تشعر به حبيبته، ليس سوى نتيجة لحتمية نفسية. سيفقد العاشق حينئذ شعوره بقيمته الشخصية في حبه وكينونته. وفي هذا المجال يقول سارتر: “اذا كان شراب الحب السحري هو الذي جعل تريستان وايزوت  متيمين ببعضهما، فان حالهما لا تهمنا كثيرا، وقد يقتل الاستعباد الكلي للحبيب حالة الحب لدى العاشق، فالهدف قد تم تجاوزه”، إذ يجد العاشق نفسه من جديد وحيدًا، اذ تحوّل الحبيب الى إنسان الي. وهكذا، فان العاشق لا يرغب في امتلاك الحبيب كما لو انه يمتلك شيئا فهو يطالب بنمط خاص من الامتلاك. انه يريد امتلاك حرية من حيث هو حرية.

 

 الأبعاد الزمنية

الزمنية هي بديهيا بنية منظمة. وتلك العناصر المزعومة للزمن، ماض، حاضر، ومستقبل، لا ينبغي مقاربتها كمجموعة تواريخ علينا جمعها كما لو أنها مثلا سلسلة لامتناهية من اللحظات الآنية التي لم يوجد بعضها حتى الآن، وبعضها الآخر لم يعد موجودا، بل كلحظات هي بنى مركبة اصلا.

الماضي – كل نظرية تتناول الذاكرة، تفترض مسبقا وجود الماضي. وهذه الافتراضات براي سارتر المسبقة التي لم يتم ايضاحها مطلقا، قد جعلت مشكلة الذكرى، والزمنية عامة، غامضة ومبهمة، قد يعترض البعض قائلا إننا اعطينا انفسنا ما يناسبنا حين اخترنا مثلا حيث الشخص الذي كان هو موجود الآن في الحاضر. ويذكر هذا البعض كما ويوضح سارتر لنا الحالات الأخرى، أن المواضيع المعيشية المختفية تصبح من الماضي العيني لكائن عاش من بعدها.

اما الحاضر فهو لذاته -خلافا للماضي الذي هو في – ذاته، فما هي خصائص كينونة الحاضر ؟ يجيب سارتر: “ثمة تناقض في فكرة الحاضر ذاتها. من ناحية، يعرف الحاضر عن طيب خاطر، بانه الوجود، كل ما هو حاضر هو موجود، نقيضا للمستقبل الذي لم يوجد بعد، والماضي الذي لم يعد موجودا، لكن من ناحية اخرى، قد يزعم تحليل دقيق تجريد الحاضر من كل ما هو غير حاضر، أي من المستقبل والماضي، لكنه لم يجد بالفعل سوى لحظة لا نهائية في قصرها”. أي الحد المثالي لتجزئة تدفع بها حتى اللانهائي، أي العدم كما لاحظ ذلك هوسرل.

 

وبالنسبة الى المستقبل لنسجل أولا ما هو لذاته لا يمكنه أن يكون مستقبلا، ولا أن يتضمن جزءًا من المستقبل: “المستقبل يصل الى العالم بواسطة الواقع الانساني، اذاً، لا يوجد مستقبل اكثر مما يوجد ماض كظاهرة زمنية اصلية في الوجود -في-ذاته “. إن كل مستقبل ما هو في ذاته -موجودا، فهو سيوجد -في-ذاته، منفصلا عن الكينونة كالماضي. المستقبل ليس هو حضور ما هو لذاته تجاه وجود قائم أبعد مما هو كائن فحسب، انه شيء ينتظرني من حيث انني وجود لذاته، وهذا الشيء هو أنا ذاتي …..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *