فارس ميخائيل الغول… رافع بيارق العزّ في زمنِ الانكسارِ
د. سحر نبيه حيدر
يقول القديس أغسطينوس:
” الموتُ لا شيء، أنا فقط عبرتُ إلى الناحيةِ الأخرى”
في بلادي أرزٌ كبيرٌ شامخٌ شجرٌ باسقٌ قاماتٌ لا تتكرّر
في أرضِ بلادي بذورٌ لمّا تخرُج، فيما بدأت بعضُ الأوراقِ تتساقطُ…
وحينَ سقطت ورقةُ الكبير فارس ميخائيل الغول من أشجارِ “لبناني”
وكأنّي بالأرضِ ترتعدُ وكأن السماءَ تدمعُ وكأنّ الغيمَ اللاهثَ يشرُد خوفًا من غدٍ أسود.
نعم، حين ينتقلُ رجلٌ عظيمٌ إلى العالم الآخر حيث اللانهاية، نبكي ذاتَنا فهو لا يرحل،
هو فقط يغيبُ عن أنظارِنا.
الفارسُ الشهمُ ترجّلْ…
ذاك الذي كان على صهوةِ الجوادِ حاملًا سيفَ الكلمةِ ومِعولَ التغيير
عرفَ كيف يُمسكُ اللّجامَ ويأخذُ جوادَ حياته إلى حيث الجودِ والفنِّ والأخلاقِ والإنسانِ بملئه وكليّته
سكب جودَه فوق الورقِ ألوانًا وكلماتٍ سوف يخلدُها الزمانُ.
رسامٌ موهوبٌ، شاعرٌ صوفيٌّ، مُحلّلٌ ثقيفٌ، محاضِرٌ، كاتبٌ…في عصرٍ ضاعت فيه معالمُ الثقافة.
رفع بيارقَ العزّ في زمنِ الانكسارِ على أملِ أن نُصبحَ على وطنٍ نحلُم به.
موسوعيٌ شاملٌ لم يفصِل بين السياسةِ والثقافةِ والإبداعٍ والتغييرِ الاجتماعي.
متعدّدُ الاهتمامات الفكريّةِ والأدبية، حافظ في جميع مواقعِه وأدواره على زخَم الكلمةِ والصوتِ وصلابةِ الموقفِ وقوةِ الإرادةِ ووضوحِ الرؤيا وعمقِ الإدراك.
انفتاحُه على المستقبل، وإيمانُه بالتغيير دفعاه إلى توجيه بوصلتِه نحو الوطن. ساهم بإنجازاتِه الأدبيّةِ والتاريخيّةِ والفنيّةِ وحتى الشعريّةِ في ترسيخ الهُويّةِ اللبنانية وتطوير الوضع الثقافي. ورسم بريشتِه الشُجاعة، وقلمِه الجريء المُتواضِع، خطوطًا عريضة دمجَت بين الإنسانيةِ والوطنيةِ. أحدثَ تغييرًا ارتقى به ومن خلاله بالحركة الثقافية والفكرية والتاريخية، وكان مثالًا للانتماء والإخلاص، يصبو من خلال ما انجزه صياغةَ حياةٍ ذات مَعنى وقيمة واستمرارية، فكان ذلك الرؤيوي الناقِد المؤرخ الفنان الذي لم يمرّ في هذه الحياة مرور الكرام.
لم يتوقف عن الإنتاجِ الفكري حتى أواخر أيامه: يكتُب، يوجّه، يستقبل الناس، يُتابع شؤونَ العالم وبخاصةٍ لبنان يُحلّل، يُحدد المشكلة، يُعالجها، يقترحُ الحلولَ، ينشرُ أفكارَه بين الناس وكأنني أسمعه يقول:”لا تفقِدوا الأملَ ما ضاع حقٌ وراءه مُطالبٌ يسعى إليه بجَهد وإيمان وعِلم”. قدّم نقدًا ثقافيًا معرِفيًا شاملًا/ يمكن أن يُطلق عليه لقبُ “الفيلسوف” بالمعنى الذي أطلقه عصرُ التنوير على كتّاب فرنسا الموسوعيين.
نعم إنها لمهمةٌ صعبةٌ أوكلتني بها د. كلوديا شمعون أبي نادر: أن تكتُبَ في فارس ميخائيل الغول، في شخصِه وفي سيرته/ ما يعني أن تحرُصَ كل الحرِص كي لا تجرحَ شفافيةَ روحِه المتواضعة وغيابَ حضورِه الغامِر.
ذاك الغائبُ عنا بالجسد، الحاضرُ معنا بالروح: رجلٌ متعدّدُ الألوان. عمِل للتفاهُم والتسامُح والحُبّ بعيدًا عن الأنانية والتعصب فكان كوكبًا نيرًا أنار هامة كلّ طالب عِلم ومعرفة وكان القُدوة والمثال لكلّ تائقٍ إلى الفضائل والخير
ناضل في سبيل إعلاءِ شأن بلاده وصونِ رايةِ الأرز خافقةً في الأعالي ورفعةِ وطنه ونشر ثقافة المُواطنَة في كلّ كتاباته..
انه ابن قدموس، المقاومُ الحق:
ناضل ضدَّ الذُلّ والتذلُّل / ضدَّ الخُنوعِ والتزلّف/ ضدّ الامّحاء ومُصادرة القرار/ ضدَّ انتهاك حقوقِ الإنسان وكرامته/
الكلمةُ مُتعِبة جدًا / شقيٌّ من تطوّع في خدمتها
فارس الغول لم يمُت ذهب إلى النوم … ذهب ليرتاحَ من عناء الرحلة التي اختارها حاملًا لواء العزّ ثقافةً زرعها ورعاها وحصدها على بيادرِ المعرفةِ الحقّ من دون مِنّة.
فارس الغول لم يمُت…
أراه هناك عند بُقعة الضوء القصيّ يناشدُنا تكملة الرحلة التي بدأها، يرجو عدم الاستسلام وعدم الرضوخ والمضيّ قدمًا علّنا يدًا بيد ننهضُ بلبناننا الذي طالما حلُمنا به..
رحل مع طلوع الفجر
احتجب خلفَ اللامدى
لا يليقُ برحيله أسى، بل لا يليقُ به فُقدانٌ من الأساس.
عزاؤنا أنه ترك إرثًا ضخمًا من الأعمال الراقية
“الطوبى لمن هم نَسخةُ أملٍ ورجاء على دروب الناس، في زمن يأسٍ وقنوطٍ عليهم فُرِض..”
باسم مجلس الفكر الذي منحني اليوم شرفَ تمثيلِه في هذه الاحتفالية الراقية، دعونا نُلملم أطرافَ الحبل ونتمسّكُ بالوفاء ونتعهدُ بالمثابرة وصونِ عِرضِ وكرامةِ وطنٍ يرفُض الانكسارَ كي تبقى الثقافةُ والعلمُ دأبَنا وهمَّنا الشاغل ويبقى رقيُّ الإنسان هدفَنا.
نعم الطريقُ شاقٌ وشائكٌ والأرضُ داميةٌ لا محالة، لكن الدربَّ تقصُر وتحلو باتحادنا
معًا نبني إنسانَ الغدّ، نكسِر أسوارَ الأنانية والفسادِ المستشري
معًا نحملُ شُعلة الربّ الأبدية متسلّحين بالإيمان
نُطفئ شموعَ الجهل بفكرٍ موحَّد وقلوبٍ نابضةٍ بالخير
نُكلل رؤوسَنا بأكاليلَ غارٍ وعطر ونغمٍ فتفوحُ روائحُ الطيبِ والبخورِ وتمسحُ عن جباهنا الدماءَ التي أهرقناها مُرغمين
يكفينا فخرًا أننا الوجدانُ الواعي والصخرُ الحي لهذا الوطن.
كلمةُ حقّ قبل الختام:
العباقرةُ في هذا الوجود لا يحُقّ لنا أن نُحللَهم، أن نمدحَهم، أن نرثيهم، أن نكتبَهم
فالذين سقونا من دمائهم وأطعمونا خُبز أيامِهم نقرأهم فقط ونُدهَش.
فارس الغول، السلام على روحِك الطاهرة،
نمْ قريرَ العين فنحن على خُطاك سائرون وعلى العهدِ باقون ومُثابرون..
***
* كلمة د. سحر نبيه حيدر (ممثلة مجلس الفكر) في حفل تكريم المؤرخ فارس ميخائيل الغول، في بلدية الجديدة- 30/ 9/ 2022