القارئ والمُترجِم

Views: 104

د. بسّام بركة*

الترجمة موضوعٌ ناقَشه الفلاسفةُ على مرّ العصور، وخصوصاً في عصر الرومانسيّين الأوروبيّين في القرن التاسع عشر، لكنّ دراسة عملِها بطريقةٍ منهجيّة ونظريّة تطورّت تطوّراً ملحوظاً منذ نهاية القرن العشرين، بتأثيرٍ من اللّسانيّات وعلوم البلاغة والخطاب، ممّا أدّى إلى ولادة علمٍ جديد ومستقلّ – نوعاً ما – هو علم الترجمة أو الترجميّات. إلّا أنّ هذا العِلم لم يهتمّ بما فيه الكفاية بالفاعل الأساسيّ الذي هو “المُترجِم”، ما عدا مفكّرٍ كَنَديّ خصَّص له كتابَيْن اثنَيْن. وسنحاول في ما يلي تقديم بعضٍ من أفكاره الأساسيّة.

ما يُلاحَظ في المَيادين التي اشتغل ضمنها القيّمون على عِلم الترجمة هو أنّهم ركَّزوا دراساتهم على المُقارنة بين اللّغتَيْن الأولى والثانية، وعلى العلاقة بين اللّغة والثقافة، وتأثيرات مواقف إنتاج النصّ الأصلي وظروفه في دلالة الكلام ومبتغاه ومدى “خيانة” النصّ المُترجَم له. ثمّ إنّهم حاولوا توضيح ما إذا كان على هذا النصّ المُترجَم أن يكون أميناً للنصّ الأصلي أو أن يهتمّ بالقارئ الذي يتوجَّه إليه.

لكن، في كلّ ذلك كان الفقير إلى الله تعالى، كما يُقال، هو المُترجِم نفسه. فالدراسات التي خُصِّصت لموقفه ودَوره المركزي قليلة بالنسبة إلى ما وُضع من أبحاث وكُتب حول المُقارَنة بين اللّغتَيْن، وأوجه الانتقال من النصّ الأوّل إلى النصّ المُترجَم، وإيضاح ما يُمكن نقْله وما لا تمكن ترجمته، والصعوبات اللّغويّة والسياقيّة التي تدخل في عمليّة هذا النقل. أمّا المُترجِم الذي يقوم بعمليّة النقل، والذي لولاه لما كان نقلٌ ولا ترجمة، فإنّه لم يحظَ بالاهتمام الذي يستحقّه إلّا عندما قام الباحث الكندي الفرنكوفوني “شارل لوبلان” بوضْعِ كتابَيْن أساسيَّيْن ينطلق فيهما من المُترجِم كفاعلٍ أساسي ليُحلِّل علاقاته بعمليّة الترجمة في أبعادها كلّها: المؤلِّف ولغته وثقافته، النصّ المنقول وعلامات التناصّ فيه، النصّ المُترجَم ولغته وما يفرضه من تأويلاتٍ ومن تصاوير ثقافيّة…إلخ.

صدر الكتاب الأوّل، عقدة هرمس، في العام 2009، أمّا الكتاب الثاني، وهو الترجمة وتاريخها الطبيعي، فقد صدرَ في العام 2019، وكلاهما تُرجما إلى اللّغة العربيّة ونُشرا: الأوّل في العام 2013 (المنظّمة العربيّة للترجمة، بيروت)، والثاني في العام 2021 (دار معنى، الرياض).

هرمس وأبّولو

يقدِّم لوبلان في عقدة هرمس النظريّات الفلسفيّة المتعلّقة بالمُترجِم ودَوره، وذلك منذ الفلسفة اليونانيّة. فهو يستوحي من الميثولوجيا اليونانيّة قصّة هرمس وأبّولو ليصفَ ما يحتدم في نفسِ المُترجمِ عندما يقوم بعمله: ذلك أنّ الصراع موجودٌ دائماً في نفسه بين العبوديّة والإبداع، بين الالتزام بحرفيّة النصّ المطلوب ترجمته وإعادة الكتابة فنيّاً في اللّغة المُترجَم إليها. وفي غالب الأحيان تكون لديه الرغبة في أن يُعطي للنصّ الذي يترجمه القيمة الأسلوبيّة التي يتمتّع بها النصّ الأصلي. فأبولو هو إله الشعر والموسيقى وربّ الإبداع والجمال، أمّا هرمس فهو الخادم والرسول، ومهمّته أن ينقل الرسائل ويفسّرها، ولكنّه يحاول أن يرتقي بنفسه إلى مستوى أبولو، على الرّغم من أنّه، فوق ذلك، محتالٌ وكذّاب، فهو يُحوِّر في بعض الأحيان ما ينقله ويُغيّر من مضامينه.

حكاية الساحر المُتدرِّب

يُعيد الشاعر الألماني “غوته” رواية حكاية “الساحر المتدرّب” على طريقته. وخلاصتها أنّه كان لساحرٍ مُتمرِّسٍ تلميذٌ يتدرّب على يدَيْه. وبعد فترةٍ من الزمن، ظنَّ هذا التلميذ أنه قد تعلَّم بما فيه الكفاية كيف يسحر المكنسة وكيف يأمرها أن تطيعه وتجلب الماءَ له. وفي إحدى المرّات، انتهز فرصة غياب معلّمه، وكرَّر الطلاسمَ ذاتها التي يقولها معلّمه، فأَطلق الجانّ وطلب من المكنسة أن تذهب لجلْبِ الماء له. وسرعان ما فعلتْ ذلك. لكنْ، ولمّا كان يجهل الطلاسم التي تأمر المكنسة بالتوقُّف عن عملها، استمرّت في جلب الماء، وكاد أن يغرق من كثرة الماء المسكوب في غرفته. فما كان منه إلّا أن أَخذ فأساً وقطعها إلى قطع كثيرة. ولكنّ ذلك زاد الطين بلّة لأنّ كلّ قطعة أخذت بدَورها تجلب الماء وتسكبه. وكاد أن يموت غرقاً لولا أن جاء الساحر – المعلمّ وأنقذه. وقد اشتهرت هذه القصّة في كلّ اللّغات، وأصبحت مضرب الأمثال. فعبارة “مثل الساحر المُتدرِّب” تُطلق في الفرنسيّة، مثلاً، على الشخص المتهوِّر الذي يقوم بأعمالٍ من دون أن يفكّر في عواقبها.

يُشبِّه “لوبلان” المؤلَّف بالساحر – المُعلِّم والمُترجِم بالتلميذ المُتدرِّب. المُترجِم ساحر، لكنّه لا يعرف كلّ الطلاسم، ويكتفي بأن يحوّل بعض الصياغات السحريّة في العمل الأدبي. أحياناً تحتفظ الترجمة بقوّة النصّ الأصلي، وأحياناً أخرى تتحرّك المكانس، فتستدعي كلُّ ترجمةٍ ترجمةً أخرى، وهكذا دواليك. ذلك أنّ المُترجِم لا يتمتّع بحريّة المؤلِّف المُطلقة، أي حريّة الإبداع المُطلق، في حين أنّه إذا كان للمُترجِم حريّة فإنّها تقع في حدود ما تسمح به عمليّة القراءة.

ويرى “لوبلان” أنّ القراءة تفترض وجودَ تعاونٍ بين المؤلِّف والقارئ، مثل التعاون بين الساحر – المُعلِّم وتلميذه: “نتناول الكتاب، ونقرأه، ونؤوّله، ونحن بوعي أو من دون وعي ألعوبة في يدَيْ المؤلِّف. نحن نُحْيي الكتاب مثلما أحيا الساحر المتدرِّب المكنسة: بتوهّم السلطة والحريّة”. وعندما يضع المُترجِم نصّاً مقابلاً هو نتيجة لهذه القراءة، يتصرّف هذا النصّ الثاني كما لو كان الأصل، فهو يأخذ مكان النصّ الأوّل، في غياب المؤلِّف الأصلي، كما أَخذ الساحر المُتدرِّب مكانَ معلّمه.

المؤلِّف والقارئ

تلك هي حال المُترجِم. إنّه قبل كلّ شيء “قارئ” النصّ الأصلي قبل أن يكون “كاتب” النصّ المُترجَم. وبذلك، لا يكون ما يقدّمه سوى قراءته الخاصّة به هو للنصّ المُترجَم. هكذا، تكون ترجمته مُختلفة حُكماً عن النصّ الأصلي: فالأصل نتيجة “تأليف” وإبداع، مع ما يتضمّنه ذلك من انعكاساتِ ثقافة المؤلِّف وحريّته في الانتقاء والتعبير، في حين أنّ النصّ المُترجَم “قراءة” وتلقٍّ، مع كلّ ما يفترضه ذلك من بروز ثقافةٍ أخرى، وميولٍ عاطفيّة فرديّة، وذاكرةٍ ذاتيّة وجماعيّة. لذلك، لا بدّ من أن نعدّ الترجمة بمثابة إعادة كتابةٍ لمعنىً مُحدَّد يستوعبه المُترجِم ويتدخَّل فيه عندما يُعيد إنتاجه. وإذا كانت الترجمة تصل أحياناً إلى مستوى الإبداع النصيّ، فإنّ ما ينقص هذا الإبداع أمران: 1) الحريّة، أي حريّة تغيير النصّ الأصلي، فوظيفته أن ينقل ما كان موجوداً، لا أن يخلق من العدم (كما يفعل المؤلِّف)، 2) الغاية، فالغاية من النصّ في يد المؤلِّف وليس المُترجِم. هناك إذاً على الدوام شيء ما يفوت المُترجِم، كما هي الحال في أيّ قراءة.

يقول لوبلان: “إنَّ عمل المؤلِّف مُناجاةُ النفس (مونولوج)، أي مجموعةٌ من الأفكار والبواعث الخلّاقة تأتي من الكتابة، في حين أنّ “عمَل” المُترجِم، من جهته، نتيجةٌ لحوارٍ – بين المؤلِّف والمُترجِم – هو وليد القراءة. … ما يوجد بين يدي قارئ الترجمة ليس بتاتاً الأصل، أو وجهاً آخر من الأصل. ما يوجد بين يدَيه هو “ملاحظاتٌ هامشيّة لقارئٍ مُمتاز” على صفحات الكاتب، أي “قراءة للعمل، وليس العملَ نفسه”. وهذا هو ما يُعلِّل ظهورَ ترجماتٍ عديدة لكتابٍ واحد، فكلّ ترجمة منها ترتبط بقراءةٍ لهذا الكتاب، قراءة تتعلّق بالمُترجِم وطريقته في التأويل، وكذلك بعصر المُترجِم والثقافة السائدة فيه. لذلك، يعود لوبلان إلى مسألة القراءة ودورها في عمليّة الترجمة في كتابه الثاني الذي يستعين فيه بالحكايات الشعبيّة، كما رأينا، من أجل الغوص في تقنيات القراءة التفسيريّة والكتابة الترجميّة.

المُترجِم قارئ فريد

إذا كان علينا مُقارَنة المُترجِم بالإله هرمس، فإنّ ذلك يستتبع أن نحكم على المُترجِم بمقياس الصدق والكذب. فكلاهما ناقلٌ للرسائل، وكلاهما لديه الحريّة في الخروج على ما تتطلّبه وظيفته من أمانةٍ وإخلاص. لذلك، دَرَجَ ناقدو الترجمات على الوقوف طويلاً أمام الشبه بين النصَّيْن، الأصلي والمُترجَم، وأمام “أمانة” النقل لدى المُترجِم والدقّة في ما ينقله.

هذا موقف يستنكره “لوبلان”. فهو يؤكِّد أنّ النصَّ المُترجَم ليس النصَّ الأصليّ مُقدَّماً بطريقةٍ مختلفة، لذلك لا يُمكن أن يُحكم على نجاح الترجمة بالمُقارَنة بين النصَّيْن. فالترجمة إنّما هي “قراءة تشهد على العلاقة القائمة بين مؤلَّفٍ مُحدَّد وهذا القارئ الفريد الذي هو المُترجِم”. ولمّا كانت هذه العلاقة ترتبط بزمنٍ وتاريخ مُحدَّدَيْن، فإنّ للنصّ المُترجَم محطّات تشهد على ازدهاره كما تشهد على موته. ولذلك، يستدعي كلُّ عصرٍ ترجمةً للنصوص خاصّة به، كما تستدعي كلُّ ترجمةٍ ترجمةً أخرى.

في النهاية، يُمكننا أن نقول إنّ النصّ الأدبي يبقى ميّتاً إلى أن يأتي القارئ ويبعث فيه الحياة. وإذا كان المُترجِم قارئاً قبل كلّ شيء فإنّه من المستغرب أن لا يستند تاريخ الأدباء على تاريخ المُترجِمين، … أي بالضبط على تاريخٍ لمناهج قراءة النصوص الأدبيّة وطُرق تلقّيها. فتاريخ الإبداع يستنير بتاريخ القراءة ويسير على هداه.

***

*باحث ومُترجم من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *