سجلوا عندكم

كيف تضحّي الدول بالاستقرار النقديّ؟!

Views: 24

حافظ إدوخراز*

منذ انهيار النظام النقديّ الذي أرسته اتّفاقيّة بريتون وودز في العام 1944، بات انعدام استقرار أسعار العملات خاصيّة تُميِّز الاقتصاد العالَميّ المُعاصِر؛ فقد ظهر هذا الاضطراب كنتيجةٍ مباشرة لتخلّي البلدان المتقدّمة ثمّ البلدان النامية لاحقاً عن أسعار الصرف الثابتة التي كانت تُميِّز هذا النظام، والتي تركت مكانها بالتدريج لأسعار الصرف المَرِنة أو العائمة. لقد أدّى تعويم العملات إلى قدرٍ هائل من انعدام الاستقرار بسبب التقلّبات العنيفة التي لا تخضع لأيّ عقلانيّة. وكما يقول الاقتصاديّان الفرنسيّان ماثيو وستردينياك (Mathieu & Sterdyniak, la globalisation financière en crise) فإنّه “لا يوجد أيّ نموذج اقتصادي يسمح بتوقُّع تطوُّر أسعار الصرف، أو حتّى بتفسير هذا التطوُّر على نحوٍ مُقنع”.

منذ انهيار نظام بريتون وودز، أصبحت تقلّبات أسعار الصرف أكثر حدّة مُقارنةً بالتغيّرات الحاصلة على مستوى المؤشّرات الأساسيّة للاقتصادات التي يُفترض أنّها هي التي تحدِّد قيمة أيّ عملة مقابل العملات الأخرى (التضخُّم، نسبة الفائدة، معدّل النموّ، الرصيد التجاري…). يؤدّي هذا النظام الجديد (أو بالأحرى هذه الفوضى الجديدة) إلى تقلّباتٍ عنيفة على مستوى أسعار الصرف بين العملات، إذ تصل أحياناً إلى 50% في غضون بضعة أسابيع فقط (Michel Aglietta, Le dollar, le Yuan et le système monétaire international). اختبرت العديد من البلدان عبر العالَم منذ سبعينيّات القرن الماضي أزمات صرفٍ قويّة كنتيجةٍ لهذه الاضْطرابات، وتُعَدّ الأزمة الماليّة الآسيويّة التي بدأت في الأصل كأزمة صرفٍ عام 1997 نموذجاً غنيّاً بالدروس بهذا الشأن.

سقوط الأوهام

كان الاقتصاديّون الذين رحَّبوا بحلول أسعار الصرف المَرِنة مكان الأسعار الثابتة يثقون ثقةً عمياء في كفاءة الأسواق، واعتقدوا اعتقاداً راسخاً أنّ أسعار الصرف التي ستحدِّدها الأسواق بشكلٍ حرّ ستعكس على الدوام المؤشّرات الأساسيّة للاقتصادات، وبالتالي ستقود نحو حالةٍ دائمة من التوازن. ولطالما دافع أنصار المدرسة النقدانيّة في الاقتصاد عن تعويم العملات. فوفقاً لهؤلاء، سيسمح تحديد الأسواق لأسعار الصرف على نحوٍ حرّ بإعادة موازنة أرصدة المدفوعات الجارية بين البلدان بشكلٍ آليّ. لكنّ واقع سوق العملات خلال العقود الأخيرة أظهر حقيقةً مغايرة كذّبت توقُّعات هؤلاء الاقتصاديّين وكشفت تهافت أطروحاتهم، فلقد ابتعدت أسعار الصرف عن مستويات التوازن، ووصلت الاختلالات العالَميّة إلى مستوياتٍ غير مسبوقة.

إنّ البلدان الصاعدة التي تبنَّت أسعار الصرف المَرِنة وقامت بتعويم عملتها الوطنيّة دفعت مقابل ذلك ثمناً باهظاً تمثّل في التقلّبات العنيفة لأسعار الصرف ونسب الفائدة المرتفعة. لقد عانت العملات العائمة لعدد من الاقتصادات الصاعدة من هشاشة استثنائيّة بسبب حركة الرساميل العابرة للحدود، وشهدت هذه الاقتصادات أزمات ماليّة بسبب ذلك. وعلى النقيض، فإنّ عملات البلدان الصاعدة التي أبقت على أسعار الصرف الثابتة ظلَّت مستقرّة وتمكّنت من الصمود وامتصاص الأزمات (اليوان الصيني نموذجاً).

لقد دفعت تجربة الأزمة الماليّة الآسيويّة بعددٍ من بلدان المنطقة إلى العمل جديّاً على التحكُّم في تقلّبات أسعار الصرف. فقد قامت الحكومة الماليزيّة بعيد اندلاع الأزمة بسنّ قوانين جديدة فَرَضت قيوداً على حركة الأموال من أجل الحيلولة دون الخروج الكثيف والفجائي لرؤوس الأموال من البلد تجنّباً لانهيار قيمة العملة الوطنيّة وتدهور سعر صرْفها.

ترتبط تغيّرات أسعار الصرف في ظلّ نظام الصرف العائم بالتوقّعات التي يقوم بها الفاعلون في السوق بما في ذلك المُضاربون. لا تعكس هذه التوقّعات في أحيانٍ كثيرة المؤشّرات الأساسيّة للاقتصادات، ويُمكن أن تتغيّر فجأة، ما يؤدّي إلى تقلّباتٍ عنيفة في مستويات أسعار الصرف. وتؤكّد نظريّة الفقّاعات المضاربيّة أنّ سعر الصرف هو نتاج لما يتوقّعه الفاعلون. وهذا هو الذي يُفسِّر الاختلاف الموجود على الدوام بين أسعار الصرف التي تُفرزها آليّة العرض والطلب وأسعار الصرف التي تُحقِّق التوازن والتي تعكس أساسيّات الاقتصاد.

في حال توقَّع الفاعلون في السوق ارتفاعَ سعر صرف عملة ما استناداً إلى الحالة النفسيّة السائدة أو إلى معلوماتٍ مغلوطة، فإنّ هذا التوقُّع، بغضّ النّظر عن معقوليّته وموضوعيّته، سيقود إلى طلبٍ قويّ على هذه العملة، ما سيؤدّي إلى ارتفاع سعر صرفها الذي سيبتعد عن قيمته الاقتصاديّة الحقيقيّة. تتحقّق التوقُّعات إذن على نحوٍ ذاتي بناء على ما يظنّ الفاعلون في السوق أنّ الآخرين سيتوقّعونه.

لم تكُن أنظمة الصرف العائمة إذن تلك الآليّة القادرة على إحداث التوازن بين العملات، كما توقَّع لها أنصارها أن تكون، فهل من الحكمة بالتالي أن نستمرّ في تركِ أحد أهمّ الأسعار (سعر الصرف) لآليّة السوق والنَّظر إليه يتقلّب بشكلٍ عنيف وغير معقول!

سعر الصرف الثّابت ورهان الاستقرار النقديّ

في بيئةٍ ماليّة أصبحت أكثر فأكثر غير مستقرّة بسبب الحركة الدائمة والعنيفة أحياناً لرؤوس الأموال، صار حفظ الاستقرار النقدي رهاناً كبيراً بالنسبة إلى الدول. ومن أجل الحدّ من الاضطرابات التي تعرفها سوق النقد الأجنبيّة، لجأ العديد من البلدان النامية في العالَم إلى تبنّي أنظمة صرف مقيّدة. وبالنسبة إلى البلدان التي قامت بتعويم سعر صرف عُملتها، فإنّها لا تتوانى عن التدخُّل في سوق الصرف بغية الإبقاء على قيمة عملاتها في الحدود المرسومة.

هكذا، فقد تفطّنت دولٌ عديدة إلى أهميّة الإبقاء على قيود الصرف كي تحفظ استقرار قيمة عملاتها. لم تُقدِم الصين والهند، خلافاً لبلدانٍ صاعدة أخرى، على التحرير الكامل لحساب الرأسمال في ميزان مدفوعاتها، واكتفتا بتحرير حركة رؤوس الأموال الخاصّة بالاستثمارات المباشرة الأجنبيّة. إنّ عملات هذَيْن البلدَيْن غير القابلة للتحويل، إلّا جزئيّاً، هي أكثر استقراراً مقارنةً بالبلدان التي أقدمت على التحرير الكامل. ولقد أبانت عبر السنين على قدرة كبيرة في الصمود أمام الاضطرابات التي تعرفها حركة رؤوس الأموال العالَميّة بين الفينة والأخرى. وفي القارّة العجوز اختارت بلدان الاتّحاد الأوروبي أن تستجيب للحاجة الملحّة للاستقرار النقدي من خلال إحداث عملة موحّدة دخلت حيّز الوجود، انطلاقاً من العام 1999 بعد محاولات عديدة سابقة باءت بالفشل.

على خلاف أسعار الصرف العائمة، يُمكّن نظام الصرف الثابت من خفْض حالة اللّايقين، كما يحول دون اندلاع أزمات الصرف المرتبطة بالحركة العنيفة والفجائيّة لرؤوس الأموال العابرة للحدود، وهي تسُهم بذلك في الاستقرار النقدي والمالي للاقتصاد العالمي. ويقود هذا الاستقرار إلى انخفاض علاوات المخاطر التي يطلبها المُستثمرون، ما يؤدّي إلى خفْض تكلفة الولوج للأسواق الماليّة العالميّة. لكنّ نظام الصرف الثابت يحتاج إلى قدر معيّن من القيود المفروضة على حركة رؤوس الأموال.

لقد سبق أن بيَّن الاقتصادي الكندي روبرت موندل (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1999) من خلال نموذجه النظري الموسوم بالثالوث المستحيل، أنّه لا يُمكن الجمع في الوقت ذاته بين ثبات سعر الصرف واستقلاليّة السياسة النقديّة إلى جانب الحركة غير المقيّدة لرؤوس الأموال. وبحسب موندل، فإنّه يتعيّن على كلّ بلد أن يختار من بين الأقطاب الثلاثة لهذا الثالوث قطبيْن اثنيْن فقط، ويضحّي بالثالث. غير أنّ التضحية بثبات سعر الصرف يعني بالضرورة التضحية بالاستقرار النقدي، وأن يصبح البلد تحت رحمة الرأسمال العالَمي. في حين أنّه من المُمكن الحفاظ على سعر الصرف الثابت واستقلاليّة السياسة النقديّة مع وضع قيودٍ على حركة الرأسمال. (https://www.hotelogix.com/)

إنّ سعر الصرف الثابت لا يعني بتاتاً سعراً جامداً، بل يُمكن خفْض قيمة العملة أو رفْعها من طَرَفِ المصرف المركزي وفق ما تقتضيه الحاجة، من أجل أن تعكس هذه القيمة الوضعَ الاقتصادي للبلد، وتأخذ بالحسبان الظرفيّة الاقتصاديّة السائدة ومصالح الاقتصاد الحقيقي والقدرة التنافسيّة للشركات الوطنيّة. إنّ ترْك سعر الصرف للأسواق وللمُضاربين، يعني التضحية بإحدى الأدوات الاستراتيجيّة التي ينبغي أن تبقى في يد الدولة من أجل إدارة السياسة الاقتصاديّة على النحو الذي يخدم المصالح الحيويّة للبلد.

إنّ القانون الأساسي لصندوق النقد الدولي لا يفرض على البلدان الأعضاء التحرير الكامل لمدفوعاتها، وإنّما تحرير ما يُسمّى بالمدفوعات الجارية فقط، وبالتالي فلا يُمكنه إكراه أيّ دولة على تحرير حساب الرأسمال من ميزان مدفوعاتها. لماذا إذن إصرار بعض الدول العربيّة على إسقاط كلّ القيود في وجه الرأسمال المالي العالمي، مع ما يعني ذلك من التعرُّض للصدمات الماليّة التي يُمكنها أن تعصف بالاستقرار النقدي والاقتصادي لهذه الدول، مع تبعات ذلك على السِّلم الاجتماعي والاستقرار السياسي الهشَّيْن أصلاً؟

***

*كاتب ومترجم من المغرب

*مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *