أنسي الحاج… الثائر النبيل

Views: 536

المحامي معوض رياض الحجل

ولدَ الشاعر والصحافي والكاتب الراحل أنسي لويس الحاج (27 تموز 1937 – 18 شباط 2014) في بلدة قيتوله قضاء جزين، وتلقى علومهُ في مدرستي الليسيه والحكمة في بيروت. باكراً جداً بدأ يكتبُ المقالات الوجدانية والأدبية وينشرها وهو على مقاعدِ الدراسة في كبريات المجلات الأدبية اللبنانية. 

دَخلَ أنسي عالم الصحافة عام 1956 من خلال عملهِ في “الحياة” ثم أنتقلَ منها إلى “النهار” حيثُ ظلَ يُحرر الصفحة الأدبية اليومية إلى أن أسسَ المُلحق الاسبوعي لصحيفة “النهار” عام 1964 وظلَ يُصدرهُ ويكتبُ فيه كل أحد حتى عام 1974، تاريخ توقّف الملحق عن الصدور. ويُعتبر هذا الملحق من أهم المنابر الاعلامية الأدبية في تلك الفترة لما أحدثهُ من تحولٍ جذري في النظرةِ إلى الأدب والفن ولحمايتهِ طلائع حركة الحداثة الأدبية والفكرية. وبَعدَ المُلحق نَشرَأنسي الحاج مقالاتهِ في صحيفة النهار ومجلة النهار العربي والدولي.

أنسي الحاج يُعتبر رائد “قصيدة النثر” الحديثة في لبنان. وفي العام 1960 نَشرَ مجموعته الشعرية الأولى “لن” التي أثارت مُقدمتها جدلاً حول مفهوم الشعر. في مُقدمةِ “لن” يعتبرُ أنسي الحاج أن قصيدة النثر هي أرحب ما توصلَ اليه توق الشاعر الحديث…وقال نشأت قصيدة النثر أنتفاضاً على الصرامة والقيد…

ويقولُ أنسي إن “قصيدة النثر لا تلغي القصيدة القديمة الموزونة التي أطرب لها بل كان المطلوب أن يفسح في المجال شرعياً لقصيدة النثر في القصيدة العربية”.

أتُهمت قصائدهُ بالصعوبة والأنغلاق ويردُ على ذلك بقولهِ “صحيحٌ أنها غامضة ومُغلقة لأنها كتب والكتاب من حميميات النفس” و”أن المقال الصحافي شيء آخر، فالصحيفة شارع عام… رصيف”.

وبعد “لن” أصدرَ أنسي الحاج أربع مجموعات هي ” الرأس المقطوع” عام 1963 وماضي الأيام الآتية عام 1965 و”ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة؟” عام 1970 و”الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” عام 1975. وبعد هذا التاريخ ظهرت لهُ قصائد جديدة في مجلات مُتخصصة ووضعت حول شعرهِ وأدبهِ دراسات جامعية عديدة في لبنان وفرنسا. 

أبتداءً من العام 1963 نَقلَ أنسي إلى اللغة العربية أكثر من عشر مسرحيات لشكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت وسواهم، وقد مثّلتها فرق مدرسة التمثيل الحديث (مهرجانات بعلبك)، ونضال الأشقر وروجيه عساف وشكيب خوري وبرج فازليان.

شغل منصب رئيس تحرير صحيفة “النهار” اللبنانية من 1992 إلى 30 أيلول 2003 تاريخ أستقـالته.

تُرجمت مُختارات من قصائدهِ إلى اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية والبرتغالية والأرمنية والفنلندية.

شَغلَ في السنوات الاخيرة منصب مستشار مجلس أدارة صحيفة “الاخبار” اللبنانية وكتبَ في صفحتها الاخيرة قطعاً ادبية وخواطر لحين وفاتهِ في 18 شباط من العام 2014.

 

حرب حزيران 1967 ” حرب حضارية لا عسكرية”

شملت مقالات أنسي الحاج قضايا حرب حزيران 1967 العربية – الاسرائيلية التي أختصرَ ما أسفرت عنهُ مآسي في شعارٍ أطلقهُ وهو أنها ” حرب حضارية لا عسكرية“. أما “القضايا” فهي عديدة ومنها تلك التي يمكن وصفها بأنها ذات طابع أنساني أكثر شمولاً وعمقاً وبينها قضية الحرية عامة وحرية الفكر وأضطهاد المُفكرين في العالم العربي وحرية التعبير والصحافة والحب والحرية الجنسية والايمان والالحاد ومنها أيضاً قضايا الشعر والمسرح الحديثين. وتناولت مقالاتهُ أيضاً كل ما كان مدار أهتمام في تلك الفترة ومنهُ مثلاً السياسة اللبنانية والقضية الفلسطينية.

أنسي الحاج مليء بقضايا العصر

يَقولُ الدكتور هشام عبود (أستاذ جامعي وناقد أدبي) إن مقالات أنسي الحاج لم تكن مواقف يُسجلها مُعلّق أو مُراقب صحافي بل كانت “أزمات شخصية ضجت بها نفس الشاعر فجعلها بل رأى فيها أصلاً شأناً انسانيا”.

وفي رأي الدكتور عبود أن “من ميزات أنسي الحاج أنهُ كان مليئاً بقضايا هذا العصر سواء أكان مسرحها لبنان أم العالم”. وأنهُ عَبرَ عنها بكتابات ” وجدانية مُتفجرة”. ويضيف عبود “حتى الشتيمة والكابوس والأختناق تتحول عند أنسي صورةً مُتفجرة مُعدية تركل بشراسة يائسة ومحبة – وما أجمل هذا التناقض – وجد كل حياد تجاه قضايا الانسان وكل تشويه لها”. 

ويستشهد عبود بما كتبهُ أنسي الحاج في العام 1968 وجاء فيهِ: “ستحلون عنا… بئس الحضارة التي لم تنجب غير الوحوش البشعة…لا أملك هنا غير السباب… ولو لم أكن جباناً لشتمت بلغة الحياة الشتائم الحقيقية، لكنني جبان لأنكم جبناء”.

دعوته إلى ثورة أهل الفكر

في مقالٍ كتبهُ الراحل الكبير أنسي الحاج عام 1970 حَملَ عنوان “أيها المُخبر أيها العميل” يُدخل قراءهُ معهُ “في حالة أختناق، حيث تُصبح الكلمة عاجزة فليجأ الانسان إلى رداتِ فعلهِ الأولى لكنهُ مع ذلكَ يصرخُ بين شدقي الكابوس صراخ طفل مُستوحش في الليل علهُ يوقظ الاخرين أو علهُ يستيقظ هو نفسهُ”.

وجاء في المقال …” لا حرب لا سلم…ارهاب وانطفاء وموت… من لا يجن في هذه الأمة مجنون…لا شيء صحيح…لا شي حقيقي…لا شيء جميل… يطلع على بالك أن تهبهب وتجعر وتلبط… أضحكوا أضحكوا… كان على هتلر أن يُفكر فينا أيضاً…لعنه الله… أيها الأخوة المواطنون”.

حَملَ أنسي لواء الثورة قبل أن يعرف لبنان “ثوراتهِ” المُستمرة من دون توقف منذ العام 1975 لغاية تاريخه. دعا إلى التغيير والى صورة فضلى أجتماعياً ووطنياً وفكرياً…ودعا في فترةٍ مُبكرة إلى ثورةِ أهلِ الفكر والطلاب في شكلٍ خاص.

وقد عَبرَ في حديثهِ لاحدى وكالات الأنباء عن المرارة والأزدراء أزاء ” توظيف” القضايا المهمة واستغلالها: “لقد أطلقتُ حركة الطلاب في لبنان وغيري وظفها”.

وليس في قارىء أنسي الحاج “الثائر ذي الهدف النبيل” أن يمنع ذاكرتهُ من أن تستحضر أحدى قصص العهد الرومانتيكي أي قصة الدكتور فرانكنشتين الشهيرة الذي سعى إلى خلق” أنسان كامل ” ولما تم له ذلك تحوّلَ “السوبرمان” الى مسخٍ رهيب. وإذا كان من شأن مسخ الدكتور فرانكشتين أن يقضي على خالقهِ فإن “الثورات الكابوسية” التي خيمت على لبنان ولم تكن لها علاقة أو شبه علاقة بأحلام أنسي الحاج فرضت على الشاعر صمتاً طويلاً وملأتهُ بشعورٍ عميق بالخيبة.

يَقولُ: “إنَ عنفَ كتاباتي ينتمي إلى توهّجِ شمس الحياة في أوج أشتعالها… انهُ من غليانِ الحق وهدير الحلم… أما الحروب التي أستعمل لبنان مسرحاً لها فليست تظاهرات وانما أعمال وحشية وبهيمية…”

ويختصرُأنسي موقفهُ بقولهِ:” الواقع أنني لا أقولُ بهذا الكلام أكثر من كلمة واحدة هي…الخيبة”.

“كلمات كلمات كلمات خيبات خيبات خيبات…الخيبة بهزيمة الحلم والخيبة بواقع ما بعد الهزيمة حيث تبدو على حقيقتك وكيف أنك كنت دائما مخدوعاً ولا تعود تقدر أن تتحرك، فما من شيء أعمق من الخيبة”.

 

أنسي الحاج…الاشد رفضاً للموروث الشعري

ويقولُ الدكور نديم نعيمه الناقد الأدبي والرئيس السابق لدائرة اللغة العربية وآدابها في الجامعة الاميركية في بيروت عن أنسي الحاج إنهُ ” أشتهرَ أول ما أشتهرَ في الخمسينيات كمحرر في الشؤون الثقافية والأدبية بجريدة النهار، فعرفَ بلغتهِ المُتحركة الطيعة النفاذة وأسلوبهِ العصبي الذي كان أنعكاساً لشخصية شابة رافضة للكثير من المُتعارف عليه في حياة مُجتمعهِ الأدبية والفكرية والاجتماعية والسياسية والروحية”.

وقال الدكتور نعيمة “انضمَ في هذه الاثناء إلى جماعة مجلة “شعر” التي أسسها الشاعر الراحل يوسف الخال فتيسر لاسلوبه العصبي الرافض في حقل النثر مُتنفس أضافي في عالم الشعر”.

وأضاف الدكتور نعيمه قولهُ” وهكذا كان لأنسي صوتهُ الشعري الخاص بين مجموع أصوات زملائهِ. الا أنهُ كان أبعد هؤلاء الزملاء ثورية وأشدهم رفضاً للموروث الشعري على أختلاف صيغهِ وأكثرهم الحاحاً على إيجاد شعرٍ جديد بالجملة”.

ويختمُ الدكتور نعيمة ملاحظاتهِ بقولهِ: “أما نتاج أنسي الشعري، الذي كان تجسيداً لرفضيتهِ، فما زالَ حتى اليوم أقل شعر زملائه قبولاً ورسوخاً وأكثرهُ اثارةً للتساؤل حول مدى أنتمائهِ إلى الجسم الشعري العام.”

نبوءة أنسي الحاج

سُئل يوماً أنسي الحاج عما كان يكتبهُ عن الحرب قبلَ أن تحدث وكأنه يتنبأ وقوعها ويقول مثلاً: “هناك من يتاجر بالخفاء…هنالك من يستعد لتسليمنا. هناك خديعة كبرى موجهة ضد وجودنا النفسي والتاريخي” وسُئلَ أنتَ تُمعنُ في وصفِ ما انتهت بنا اليه الحرب ويقولُ: “نحن أبناء بلد بلا قضية. نحن مواطنو الاهدار والسخافة. منافقون لصوص…”. كيف تتحدث عن نبوءتك في الحرب وحدسك بها. فأجابَ: ليس في الأمر نبوءة. كل شيءٍ واضح لمن يُريد أن يرى.

 

معاناتهِ من الحرب

عانى انسي الحاج من الحرب فعلاً لا قولاً قبل أن تندلع شرارتها رسمياً في 13 نيسان 1975.. كان هناك حرب خفية سابقة للحرب المُعلنة ومع ذلك أستمر يكتب ولم يتوقف عام 1976 إلا حين أيقنَ أن الاستمرار سيوظفهُ رغماً عنهُ لمصلحةِ من يُقاتل. فالحرب ستستوعبهُ على أفتراض أنهُ استطاعَ مواصلة الكتابة ومواصلة نشر ما يكتب وكل ما سيقولهُ بعد الآن خيراً أو شراً، لا بد أن يظهر جزءاً من الواقع القائم حينها تتمة لهُأ وتغطية لهُ.

عندئذ أتخذَ قرارهُ بالتوقف عن الكتابة…كان الصمت قد أصبحَ هو الرفض الحقيقي الساطع للحرب بعدما غدا الكلام أياً كان نوعاً من أنواع الاشتراك بها.

أنسي الحاج في عيون الشعراء

قالَ عنهُ الشاعر أدونيس “إنه الأنقى بيننا”.أما الشاعر عبد المنعم رمضان فقال “في شعر أنسي هاجس يصدم شعراء جدداً كثيرين بات شائعاً لديهم هذه الأيام تمجيد البراءة، براءة المعرفة. أنسي يرفض تلك البراءة، كأنها أتربة علقت بجسد من الأفضل أن يغتسل لنراه عارياً. شعر أنسي سيرينا هذا العري، ولغة شعره ليست كساءً شفافاً، ليست غيمةً، ليست وسيلةً ولا غايةً. إنّها الجسد العاري نفسه حيث عريه معرفة، وحيث معرفته عري”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *