عودة الروح – ٢
د. جان توما
تابع ذاك المغترب العائد زيارته إلى مينائه بعد ٤٨ سنة غياب. زار مدفن والده، نقل له تحيّات أمّه المدفونة بعيدًا في أرض الغربة، بعدما التحقت بأبنائها بعد وفاته.
أمام مدفن والده رأى الدنيا تصغر، والبحر يتبخّر، واليابسة تتقارب، ليلتقي ما دفن هنا وهناك. كأنّ لقاء الروحَين تمّ بحضوره مع ولديه. في هذا التراب ارتاح والده الذي لم يعرف إلّا الحيّ القديم، ولم يرد أن يعرف غيره. كان أبوه عارفًا أنّ كلّ طالع من الحيّ العتيق، هو كالذي “خرج ولم يعد”، وإن عاد، فبعد سنين طوال، مثله، حيث تغيّرت الوجوه والأحياء، وراحت أُلفة الطفولة وشيطنة الشباب.
أخذ العائد ولديه ليريهما البيت الوالديّ الذي نشأ فيه. وصل البناية العتيقة، رأى وجوهًا جديدة تطلّ من النوافذ، لم يجد أطفالًا ،كما في عهده، يلعبون في الحارة. لم يجد أصحاب المحال جالسين على كراسي خيزران أمام أبواب محالهم. لم يرَ أحدًا يحمل وعاء ماء، يمسك براحته كمية ماء ويرشّها على الرصيف كي لا يعلو الغبار. راحت تلك العادات.
لم يستخدم العائد من غربته بعد ٤٨ سنة المصعد الكهربائيّ الجديد، العامل على الكهرباء والموتور الخاصّ، للصعود إلى الطابق الثالث حيث بيت أهله سابقًا. صعد السلّم درجة درجة. يده اليمنى تستند على كتف ابن، واليسرى على كتف الآخر. (Ultram) كان يحكي لهما عند كلّ درجة محطة من مراحل عمره، عن أحداث طفولته، عن طيشه ومراهقته. حدّثهم عن عودته يوميّا من المدرسة إلى البيت، وكيف كان يصعد السلّم بعجقة، ليجد أمّه تفتح باب البيت، تستلم منه محفظة الكتب، تغسل له يديه ووجهه، وتضع له الطعام.
أنهى بعض حكاياته حين وصل إلى بيت أهله القديم، لكن لم تفتح أمّه له الباب، كالعادة، بل تحسّس كتفيه، فوجد محفظة ذكريات تحمّلها له والدته، ليجد نفسه يقتات منها مع طيور أيلول المهاجرة إلى غربتها.