سجلوا عندكم

الزَّجَلُ لبنانٌ في لبنان

Views: 170

 الدكتور جورج شبلي

يتعرَّضُ إيمانُ النّاسِ بالزَّجَل، في فتراتٍ من الزّمن، للإرتجاجِ والتفسّخ، وأحياناً للنّكران، وذلك من دونِ الإستنادِ الى مبرِّراتٍ عقلانيّة، بل الى شعورٍ غامضٍ بأنّ شؤونَ الزَّجَلِ قد عفّاها الزّمنُ، وينبغي الإِعراضُ عنه لأنه من رواسبِ الماضي، ولا يتأَقلَمُ مع ظروفِ الحداثةِ والتطوّر، من هنا، لم تُبقِ هذه النظرةُ التراجيديّةُ سِماتٍ سيّئةً وسلبيّةً إلّا ووَصَمَتِ الزَّجَلَ بها، ما أدّى الى قطيعةٍ معه.  

في البداية، لا بُدَّ من الإِقرارِ بقدرةِ الزَّجَلِ على تَخَطّي ما يُضَيِّقُ خِناقَه، ليؤكِّدَ على استمرارِ وجودِهِ في مجتمعِنا، ولو اعتراهُ بعضُ الضَّعفِ، بدليلِ الحفلاتِ التي يُحييها الشّعراءُ في مناطقَ عديدةٍ من لبنان، ويرتادُها الكثيرونَ من الذَوّاقة. وهذه الظّاهرةُ هي انتصارٌ باهرٌ لِفَنِّ الزَّجَل على إمكانيّةِ انقراضِه، إِنْ لم نَقُلْ على خطَّةِ القضاءِ عليه. من هنا، يَصدُقُ تشبيهُ الزَّجلِ بالإبنِ الشّاطِرِ الذي كانَ ميتاً فعاش، وضالّاً فوُجِد.

ترتبطُ مسيرةُ الزَّجلِ، عندَنا، بحياةِ النّاسِ أنفسِهم، بأبعادِها الإجتماعيّةِ والإقتصاديّةِ والرّوحيةِ والسياسيّةِ والفكريّة… وكأنّ هذه الحياةَ تشكّلُ اللّوحةَ الإنسانيّةَ التي يستقي منها الزّجلُ موضوعاتِه، أو القضيّةَ التي يلتزمُ بها، ويُتَرجِمُ خصوصيّاتِها، وأُسُسَها، واتّجاهاتِها، ليكونَ قَيِّماً على واقعِها المُعاش. وقد لازمَ الزَّجلُ حياةَ العَوامِ دُهوراً، يترجمُ طبائعَهم، وأذواقَهم، وأخبارَهم في كامِلِ مجالاتِها، أإِيجابيّةً في حلاوةٍ ونَعيمِ عَيش، أو سلبيّةً في أزماتٍ ونكباتٍ وأشواك. من هنا، يَعبرُ الزَّجلُ من مستوى الشِّعرِ الشّعبيِّ الذي اعتبرَهُ بعضُ النُقّادِ مجموعةً من الأَراجيزِ يُجيدُها قَوّالونَ يقفونَ عندَ المعاني السطحيّةِ السّاذجة، الى مرجعٍ يتأبَّطُ تاريخَ شعبٍ، بِنُضجٍ، وسلاسةٍ، وعمق، يُقَدِّمُهُ بلذّةٍ وإمتاعٍ يعجزُ عنهما، في الكثيرِ من الأحيان، الشِّعرُ بالفُصحى.

تُشَكِّلُ الموهبةُ عِمادَ الزَّجلِ الأساسيَّ، وهي ليسَت مُقَوِّمةً ضيّقةً فيه، فهي التي تفكُّ كيسَهُ ليرشحَ منه ابتكارٌ يَستوجبُ المكافأة. ومع هذا، لا يمكنُ الإدّعاءُ بأنّ كلَّ الأزجالِ خاليةٌ من الرّكاكةِ، والضَّعفِ، والتّكرارِ، والإسفاف، فإنّنا، كثيراً ما نقفُ عندَ تَشقيعٍ غيرِ مفهوم، أو عندَ رَصفٍ غيرِ مترابِط، أو عندَ مقاطعَ” مُكَسَّرَةٍ”،  أو عندَ أفكارٍ خامدة، أو عندَ صياغةٍ مُهَلهَلَة… ويعودُ ذلكَ، حتماً، الى قَوّالينَ غيرِ صَلِبي العُودِ في الشِّعر، أو الى حماسةٍ فوريّةٍ تَجرُّ الظّروفُ الزَجّالَ إليها، فيرتَجِل. لكنّ الزَّجلَ يُخَزِّنُ قرائحَ متفوِّقةً وقادرةً على إنجازِ ابتكاراتٍ بَلاغيّةً، لا تقلُّ روعةً عن قصائدِ أشياخِ الشِّعرِ.

يُخطِئُ مَنْ يَحسبُ أنّ شِعرَ الزَّجلِ يتقوقَعُ في نَقلِ الوقائعِ، وفَضحِ المشاعرِ، وتَسَلُّقِ أدراجِ المبارزةِ بعَنتَرِيّةٍ موصوفة، وكأنّه مُلَقَّحٌ بالضَّباب، كلا، إنّ الزَّجلَ شِعرٌ منفتِحٌ يحملُ حقيبةً سحريّةً فيها من كلِّ فَنٍّ خَبَر. فيها الصّورةُ، واللَّونُ، والمرايا، والإيقاعاتُ، والخَيالُ، والزّخرفةُ، ونَسجُ القصّة، وكثافةُ الرقّةِ والجَمال، وكلُّ ما أُتِيَ به من إبداع… وكأنّ شَملَ الفنونِ عادَ ليلتئمَ في صَحنِ الزَّجل. ولعلَّ مواكبَ القصائدِ الزَّجليّةِ نافذةٌ تُطلُّ على الحياةِ بأسلوبٍ حارٍّ، مؤثِّرٍ، مُبهِج، وقد استطاعَت، بذلك، أن تحميَ نفسَها من التَّجاهلِ، والتّضييقِ الغَلِظ، يُبيحُهما لنفسِهِ المُتَعالي السّاذجُ الذي يفتقرُ الى العَدلِ، والمنطق، لِذا، فهو لم يعترفْ للزَّجلِ، كفَنٍ في دنيا الشِّعر، حتى بِمَرقِدِ عنزة.

لقد أدركَ النُقّادُ الواعونَ، بمعرفتِهم، أهميّةَ الزَّجلِ في مضمونِهِ ولُغَتِه، ومفاصلِ كلامِهِ، وقارَبوهُ بصوابيّةٍ، وتعاملوا معه بِوَصفِهِ وحدةً كليّةً لها رسالة، وأحاطوا بتطوّرِهِ وبسياقاتِهِ، ولم يعتبروهُ لوناً من العَبَث، كلُّ ذلك لإبرازِ حقيقتِهِ، ومَنحِ قيمتِهِ الحرارةَ التي تستحقّ. وقد أَكبَرَ النُقّادُ الزّجلَ فنَسَبوا إليهِ فَضْلَ الحِفاظِ على تراثِ الجماعة، وكأنّه ذاكرةُ الأيام، يؤَرِّخُ للكثيرِ من الوقائعِ والمواقِع، لإِنعاشِ ما تَجافاهُ الذِّكر، وبِذا يُؤَكَّدُ على أنّ بعضَ الأَحداثِ محبوس، وبعضَها طليق. بالإضافةِ الى دهشةِ النقّادِ من كَونِ الكثيرينَ مِمَّن أجادوا في الزَّجلِ، واشتهروا، كانوا أُمِيّين، أو على شيءٍ بسيطٍ من العِلم، لكنهم، بالرَّغم من ذلك، وُفِّقوا، بالفِطرةِ، الى إبداعاتٍ مُتجاوزةٍ انفردَت بالرقّةِ، والجَمالِ، وطقوسِ الإحساس، وسلكَت مسلكَ البقاءِ فلم يَحُلْ عليها الحَول.

إنّ الزّجلَ هو شِعرُ الشَّعب، بِقاعُهُ تنتمي الى الرّبيع، وله، دَوماً، زائرون أعِزّاء.

(caldwell.edu)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *