احترس “حقل ألغام”، عن مسرحية “حديقة غودو” لأدهم الدمشقي
ناهلة سلامة
تحذير، المقال ليس نقدًا مسرحيًا؛ بل محاكاة شخصية بيني وبين الكاتب وصديقه غودو.
رسمتُ في طفولتي يدًا على المرآة، ووضعت بصماتي فوقها، لتبقى ذاكرة المكان، وتبقى غرفة العتم واضحة كخطوط يديّ. وكنت كلّما أكبُر، يتهشّم جزءٌ من المرآة، وتتشوه الذاكرة، أو ربما أنا التي كسرتها متقصدة نسيان الماضي والطفلة التي كنتها.
عندما أتحدث عن أدب الاعتراف أو التصالح؛ أذكر ما أريد أن أتذكره، من دون تواريخ أو أحداث تفصلية، حتى وصلت إلى بقعة بيضاء انمحى منها الكثير من الناس والحكايات، وعلى الأغلب، إن هذا الغياب المقصود به فسح المجال لقصص جديدة لا تشبه ما مضى.
وبعد كل ما يمر بنا، نصادف غودو، كلباً لطيفاً من نوع غولدن ريتريفر، وذلك قبل أن يقرر الفنان أدهم الدمشقي تحويله إلى بطل لوحاته، وصديق كآبته وصدماته، وبطل مسرحيته الأخيرة “حديقة غودو”، ليصبحَ غودو بطل حكاياتنا جميعًا. إنه اللغم الذي وضعه لنا أدهم ليبترَ به حاضرنا، ويفتح الجروح العميقة من خلال مشهدياته المسرحية، ويتطرّق إلى الحزن والألم والاغتصاب والفقر والهجر. ما دعاني إلى التفكير في التهرّب من المواجهة. فلو فكرتُ قليلًا قبل الدخول إلى المسرح، لكنت ذهبت إلى حاجة أخرى، كشراء الشوكولا مثلا، أو الجلوس على حافة الطريق؛ ربما كان ذلك أخف وطأة عليّ من الوقوع في فخ أدهم الدمشقي.
لكن، كما تقول أمي”قدرك بيلحقك لو عالصين” وهذه المرة تبعني إلى مسرح مونو!
أنت الآن في عالم آخر، ترافق الكاتب في مراحل طفولته، وصولاً إلى أحداث الرابع من آب، كيف نجا هو وغودو من الموت، وكيف ركض خلف كلبه، في محاولةٍ منه لإنكار حقيقة الانفجار أو تجديد اللقاء بكلبيه اللذين فقدهما في طفولته نتيجة الفقر وموت أبيه… إنه لا يريد أن يخسر من أحبهم مجددًا. تلك الحادثة أيقظت في نفسه صدمات سابقة، كأننا أمام مشهدية ثنائية كالمرآة، بين حاضرٍ صادم وماضٍ قابعٍ في الذاكرة.
إنها إعادة تشكيل للأحداث، في محاولةٍ سردية شعرية مُمسرحة لفهم مشاعر الخوف، الذنب، وتخطّي الصدمات التي وضعت الكاتب في تساؤلات مستمرة.
يُدخلك الكاتب في مواجهة مع نفسك، تعيش لحظات فراقه وفراقك، ألمه وألمك، فقره وفقرك، صراع بين ماضيك وحاضرك، ثم يحملك كموجة هادئة أحيانا، صاخبة أحيانًا أخرى، كأنه يقول لك إنها حكايتي أنا، حكايتك، حكايتنا، أسردها لأنني بحاجة لأن تسمعني، أو أسمعك بها! وهنا يكمن السرّ في كسر الجدار الرابع واختراق عتمة مقاعد الجمهور، الذي ظلّ في حالة من القلق والدهشة المستمرة.
إنه التطهير الذي ذكره أرسطو في كتابه “فن الشعر” وهو فعل لتجديد العواطف الزائدة وإصلاحها، والذي قارن من خلاله تأثير المأساة في عقل المتفرج بتأثير التطهير في الجسد”.
كلبٌ ورجلُ وحبيبة، أصدقاءٌ وعابرون، قصص الماضي والحاضر على خشبة واحدة، ممثلون يمدون ألسنتهم ويقهقون..
ثم تنتهي المشهديات بحواريّات صامتة، وتمتمات ينفجر بها اللغم الذي يجعلك تسأل:
هل حقًّا نَجونا؟؟ أم أننا أصبحنا سعداء في قبورنا؟!