وللنّهرِ حكايةٌ… قصة قصيرة
ديانا جورج حنّون
وقفَتْ “ماري” على الجسرِ، تراقبُ نبضَ مياهِ النّهرِ وهو يرتجفُ في دوائرَ مع كلِّ حصاةٍ ترميهِ بها ابنتُها.
“ماري…ماري”، صوتٌ سمعَتْهُ، أَرجفَ القلبَ، فأَدمعَتْ.
– ماما، لِمَ تبكينَ؟ سألَتْها ابنتُها بقلقٍ.
بعينينِ مخضلّتينِ نظرَتْ إِليها، وقالَتْ:
– الحصاةُ التي فاجأَتْ شرودَ مياهِ النّهرِ استفزَّتْ ذاكرتي بدوائرِها.
رأَيْتُني طفلةً صغيرةً، أَوكلَتْني أُمّي بتعبئةِ الدّلوِ منْ مياهِ النّهرِ، تأخّرْتُ في العودةِ الى البيتِ، فنادَتْني “ماري…ماري”. كأَنَّني سمعْتُ صوتَها الآنَ. وهلْ أَنساهُ؟
– لِمَ تزدادينَ حساسيّةً كلّما أَتَيْنا إلى هُنا، ووقَفْنا على هذا الجسرِ؟
– آهٍ يا ابنتي، للنّهرِ حكايةٌ نُقِشَتْ على جدارِ القلبِ، وعصَتْ على النّسيانِ.
– أَخبريني…
– إِبّانَ الاحتلالِ الفرنسيِّ لبلدِنا، وفي هذهِ المنطقةِ الجبليّةِ، نشطَ السّارقونَ وقطّاعُ الطّرقِ، فأَقلقوا سكّانَها الآمنينَ.
في أَثناءِ ملاحقةِ “فراريّ” (طريدُ العدالةِ)، منَ العسكرِ، أَطلقَ عدّةَ طلقاتٍ ناريّةٍ، بالقربِ منْ بيتِ والدي، هناكَ على التّلةِ، واقتحمَهُ، وهدّدَ بسلاحِهِ أهلَ البيتِ إنْ بلّغوا عنهُ فصمَتوا. بعدَ وقتٍ قصيرٍ جدّاً داهمَ العسكرُ بيتَ والدي، وفتّشوهُ بحثاً عنِ “الفراريّ” الذي هربَ في الحقولِ منْ دونِ أَنْ يَروه.
إِنهالَتِ الأسئلةُ على أَبي: “أَينَ “الفراريّ”، يا “ابراهيم” “؟ “لِمَ أَويْتَهُ في بيتِكَ”؟ “أَينَ خبّأتَهُ”؟ “أَينَ السّلاحُ الذي أُطلِقَتْ منهُ العياراتُ النّاريّةُ”؟
عندما لمْ يجدوا أَجوبةً عنْ أَسئلتِهم، إِقتادوا أَخي وأُختي إلى مخفرِ الجندرمةِ (Gendarmes تسميةُ الدّركِ في أيّامِ الإحتلالِ) السّاحليِّ لاستكمالِ التّحقيقِ معهما، وباتا فيهِ، وهما اليافعانِ لا يعلمانِ شيئاً ممّا يجري.
في ذلكَ المساءِ، بقيَ والدي ساهراً لمْ يغمضْ لهُ جفنٌ. ما إِنْ طلعَ الصّباحُ، حملَ زوّادةً، مشى والعمَّ “فارس” بمحاذاةِ النّهرِ، حتّى وصلا مركزَ الجندرمةِ السّاحليَّ، بعدَ مسيرِ أَيّامٍ، وقالَ أَبي للضّابطِ المسؤولِ حرفيّاً: “دخلَ “الفراريّ” بيتي عنوةً، تحتَ تهديدِ السّلاحِ، ثمّ غادرَهُ لا نعلمُ وجهتَهُ، ولا علاقةَ لأَحدٍ منّا بهِ “.
أَعادَ والدي هذهِ الكلماتِ مراراً، وأَصرَّ على براءةِ أَخي وأُختي.
عندها أَطلقَ الضّابطُ سراحَهما، وتعهّدَ أَبي بعدمِ إِيواءِ هاربٍ منَ العدالةِ. وعادوا إلى القريةِ، صعوداً بمحاذاةِ النّهرِ.
– لكنْ كيفَ حضرَ العسكرُ إلى بيتِ جدّي تحديداً؟
– أحدُهم وشى بوالدي وشايةً كاذبةً، واتّهمَهُ بإِيواءِ هاربٍ منْ وجهِ العدالةِ.
وعقدَتْ “ماري” حاجبَيها، وغابَتْ نظراتُها في ذلكَ البيتِ القابعِ على التّلةِ، وأَردفَتْ قائلةً بغصّةٍ:
– هيّا يا ابنتي، أَطلْنا المكوثَ هُنا. لنغادرْ على عجلٍ مكاناً استفزَّ الذّاكرةَ وأَشعلَ في الأَحشاءِ حنيناً لا شفاءَ منهُ.
غداً يومٌ جديدٌ، واليومَ صارَ في جعبةِ النّسيانِ…