شياطين وغرائب مأسويّة في كتاب “أدباء من العالم”!

Views: 353

وفيق غريزي

إن الوقوف على احداث استثنائية من تجارب ادباء وشعراء استثنائيين، لا يعد تاريخًا لحياتهم، بل هو محاولة استكشاف السر الذي كان يكمن وراء انطلاقتهم نحو الخلود الذي سجّلهم كمبدعين، ولا نظن أن هذه اللمحات التي تم اختيارها من تجاربهم المثيرة كافية للإحاطة بجوانب كثيرة من تاريخهم الحافل بالمعطيات الإبداعية، ولكنها كفيلة بأن تضع بين ايدينا المفتاح الذي نلج من خلاله الى سبر اغوار تلك اللمعات المضيئة في الثراء الإبداعي الذي ميزهم، وهي ليست دراسة تحليلية او نقدية لمنجزاتهم، انما هي الوقوف على مواقف محددة مهدت إلى ابرز تلك الظروف التي حددت مكانة كل واحد منهم في عالم الابداع.

 

آرثر ميلر وعبادة الشيطان 

في اوراق آرثر ميلر (Arthur Miller) لم يشر إلى مصير ذلك الرجل المجنون، ولا الى الطريقة التي استطاع بها مغادرة ذلك العالم الغريب، الذي التقاه مصادفة في قرية كان يعيش فيها، وان لمح في بعض الأحيان اشارات غير واضحة جاءت في ثنايا قصته “البقعة التائهة في عالم مجنون غير مرئي”.

من عجب، والبشرية تجتاز مرحلة حضارية علمية متطورة، خاصة منذ بدايات القرن التاسع عشر، وحتى ما هي عليه اليوم، ومن عجب أن تتناقل وسائل الإعلام أحداثا لا تكاد تصدق بسبب غرابتها، أحداثا مريبة عن السحر والسحرة، وأفاعيل الشيطان وتلامذته في بقاع كثيرة من العالم، بل هناك جمعيات تعلن عن نفسها هنا وهناك لعبادة الشيطان.

” والأعجب من ذلك يأتي من اكثر مناطق العالم تحضرًا وعلمانية، وإيمانا بالواقع الملموس بعدما تراجع الايمان بالغيبيات عندهما”. وآرثر ميللر يزعم انه خاض هذه التجربة بنفسه. وربما تصورنا أن ميلر قد شطح به الخيال في ما كتب باعتباره كاتبا مسرحيا وروائيا، واراد منا أن نصدق هذه الأسطورة التي لا تخلو في بعض جوانبها من اللامعقول. وقد ضمّن مواقف منها في مسرحيته “سالم”، ولنا كل الحق أن نصدق أو لا نصدق، ولكن هذا ما كتبه آرثر ميلر. 

 

غوستاف فلوبير – رائد الواقعية 

يلقبون الروائي غوستاف فلوبير (Gustave Flaubert) برائد المدرسة الواقعية، رغم أنه عاش انضج فترات عبقريته في العصر الرومانسي، ايام كانت الذاتية المريضة في كل اوروبا هي معيار الفنان، الأيام التي وضع فيها عشرات الكتاب والموسيقيين والشعراء قواعد ومبادئ الرومانسية القائمة على النرجسية الموغلة في عبادة الذات، واللذات ايضًا. أما فلوبير، يقول الكاتب نجم عبد الكريم في كتابه “ادباء من العالم”: “فلا نعرف كاتبا من كتّاب تلك المرحلة كان اعف منه في تلك الأبواب المغرقة في الذاتية الهاذية”. لكنه، أي غوستاف فلوبير، كان من البراعة والإخلاص، بحيث يفصل فصلا تامًا بين تفكيره بعمله وبين رغباته. لم يكن معروفا بالشهرة الواسعة في مدينته باريس، ولكن بعد نشر قصته “مدام بوفاري” وبعدما صار مشهورا، 

” كان يواجه ما تعرّض له من احداث بحكمة ورويّة، وبالعنف أحيانا”.

 ولكن كيف ولدت رائعته “مدام بوفاري”؟. 

الأفكار العظيمة للأعمال الأدبية الخالدة لا تبدأ من فراغ، كلها تقريبا لها جذور عميقة في أرض الحقيقة، وينقل عبد الكريم عن فلوبير قوله:

“كنت على معرفة دقيقة بمدام دلفين، ولا انكر انها حاولت في يوم من الايام أن تضمني إلى قائمة عشاقها، صحيح انها جميلة ورائعة، طفلة غضة، في السابعة عشرة من عمرها، لعوب، أنيقة، ذات دلال وجاذبية، ولكن كنت أفكر فيها كبطلة لرواية سوف اكتبها يوما ما، بدلا من أن تكون عشيقة”.

 وكان فلوبير في أول الأمر ينوي أن يجعلها قصة عاطفية من طراز جديد، ثم حدث أن ماتت مدام “دلفين ديلمار” في الظروف التي بينّها في روايته، فعدّل في القصة العاطفية الرومانسية إلى القصة الواقعية. وكان قد انتهى من قصة اخرى له بعنوان “البائسون”. لقد اختار فكرة واقعية، أرغمته هذه الفكرة على التخلّص من طابعه العاطفي الرومانسي، وبدأ غوستاف فلوبير في كتابة قصة حياة مدام دلفين ديلمار التي سماها “ايما بوفاري”، وان كان قد عدل في خاتمة الرواية بعد موتها. وعندما شارفت الرواية على نهايتها، زاره رودولف، وهو أحد الأسماء في قائمة عشّاق مدام بوفاري، وكان قد ادى دورا مؤثرا في مجرى حياتها “. 

إن الروايات التي كتبها فلوبير قبل “مدام بوفاري” مثل “غواية القديس أنطوان” وغيرها، كانت كلها متواضعة، خافتة الاحداث، واثر صدور “مدام بوفاري” احيل إلى المحاكمة، لأن روايته هذه تمس الاخلاق العامة. 

 

ابراهيم عبد القادر المازني وسخريته 

لا نكاد نعرف كاتبا كتب عن نفسه وترجم عنها بصراحة واخلاص ومن دون مواربة، كما فعل المازني، وهذا الأمر يتعب كل من يريد أن يقترب من حياته بالقلم، وخاصة اولئك الذين جعلوه في يوم من الأيام، ولا يزالون استاذًا لهم في عالم القصة والمقالة والتأليف الدرامي.

يشير المؤلف نجم عبد الكريم، الى أن المازني في دعابته شديد المرح زئبقي الحركة الذهنية، كان في طفولته، وهو يذكرها باعتزاز وتفصيل شديد، يكاد لا يترك شاردة أو واردة من ذكريات تلك الايام إلا عاد اليها مرة بعد مرة، حتى شقاوته في الحارة التي كان يسكنها مع أمه وأبيه. كان يحب أمه حبا جما، وقد بلغ حبه لها درجة لم يصل اليها أو إلى ترجمتها اديب في التعبير عن حبه إلى تلك الأم، ولو جمع أحباء المازني ما كتب عن أمه فصولا متفرقة لصارت مكتبة كاملة في حب الأم، والحدب عليها والتفاني في مرضاتها، والتماس بركتها، والاعتراف بجميلها، ولم تكن والدته على قدر من التعليم، وانما كانت خبيرة بالنفس البشرية، وما يتولّد فيها من عقد في مواجهة الاحداث. وينقل المؤلف عن المازني وصفه للبيت الذي يسكنه، بأنه يقع على حدود الأبد، ولما طلب اليه أن يفسّر ما يقصده بحدود الابد، قال: “على تخوم العالمين، على بعد أمتار من المقابر”.

 كان المازني يكره التدريس شأن الذين بدأوا حياتهم به، فبغضوه ومنهم عباس العقاد وشكري الذي صار ناظرا، والعقّاد بحسب رأي المؤلف له مبرراته في بعض التعليم، أمّا المازني فلم يبغض التدريس لعلة في المهنة، وانما العلة في العاملين على رأس الجهاز التعليمي في ذلك الوقت الذي تفشت فيه حبائل الوشايات، والتي تعرّض لبعض منها المازني في علاقاته مع شاعر النيل حافظ إبراهيم، اذ دبّ الخلاف بينهما من دون أن يرى اي منهما الآخر، وأصرّ حافظ على أن ينهي مستقبل المازني عندما ذهب إلى حشمت باشا، وزير المعارف، وكان صديقا له ليشكو المازني لقيامه بترجمة بعض أشعاره، وغمزه فيها غمزات غير كريمة امام التلاميذ، فأوصل البعض ذلك إلى حافظ.

لو نصبت محكمة للنقد الأدبي، لكان المازني واحدا من المتهمين بسبب الإكثار من المقالات ذات الموضوعات المتشعِّبة التي اشار اليه اكثر من نقد.

 

آرثر رامبو وفيرلين – ابداع وشذوذ

الثنائيات في عالم الشعر والفن والإبداع كثيرة تكاد لا تحصى: “شللي- بايرون”، “فان غوغ – غوغان”، “العقاد – المازني” وغيرهم. صداقات وطيدة اثّرت ايجابا بشكل أو بآخر في مسيرة الفن والأدب والإبداع، غير انه ما من صداقة اثّرت سلبا على الناحية الانسانية والادبية كتلك التي كانت بين الشاعرين الفرنسيين آرثور رامبو (Arthur Rimbaud) وبول فيرلين (Paul Verlaine). 

عندما بلغ فيرلين عرش الشهرة، صار يتلقى بعض الرسائل من قراء شعره، فلفتت نظره رسالة من فتى ريفي يدعى آرثر رامبو، يقول فيها: “استاذي العظيم الشاعر الأعظم بول فيرلين … كلمة صغيرة عن نفسي، اسمي آرثر رامبو، شاعر مبتدئ، لكن روحي توّاقة إلى الارتواء من رحيق فنك، احاول أن اقلدك ولكن من دون جدوى، اعيش في قرية شارليفيل واكاد اختنق فيها، أود لو اعيش في باريس، ولكنني فقير، ولكي اكون صريحا معك، فأنا لا املك حتى قوت يومي، التوقيع: آرثر رامبو 

ملحوظة: ارفق مع هذه الرسالة آخر قصيدة كتبتها. 

اعجب فيرلين بالقصيدة ودعا رامبو إلى باريس واستضافه في منزله الزوجي…

لم يكن رامبو غير شيطان خرج من انتن حفر جهنم، فما هي إلا أسابيع، مارس فيها ابشع أنواع الموبقات، بل انه تطاول على الكتّاب والمفكرين والشعراء في منتدياتهم، متهما اياهم بالتخلف وعدم التجديد، ولم تسلم ماتيلدا زوجة فيرلين من سخافاته وقلة ادبه:

” وفي المقاهي صار رامبو يتجاسر وينتقد اشعار فيكتور هيغو، الذي كان في تلك الأيام منفيا الى إنكلترا”. وما يعزز موقف هذا الشيطان رامبو أن كتب شعرا جميلا أخّاذا، فلا احد ينكر جمال شعر هذا الشيطان الخارج من الجحيم، ولا حتى جمال شعر فيرلين، ولكن الحياة التي اندمج فيها بكل قبحها، والتي جر اليها صديقه فيرلين، كانت بشعة قذرة، ملوّثة. وفي النهاية وبعد التشرّد في بلدان أوروبا، اختفى رامبو من حياة فيرلين، الذي عاد الى باريس، فوجد المحافل الادبية ترفضه، وكان يقول لكل من يسأله عن صديقه الشيطان رامبو: “إنه شيطان، لا شك في هذا، لكنني عوّلت أن اجعل منه ملاكا”. فحوّله رامبو الى شيطان مثله.

 

يوهان غوته وعشقه الأخير 

يعتبر الشعب الجرماني الشاعر يوهان غوته (Johann Wolfgang von Goethe) انه شاعر الدنيا الأوحد، وبعضهم يرى أنه إذا كان وليم شكسبير اعظم شاعر أنجبته البشرية، فلا ريب أن الذي يليه في المرتبة يوهان غوته، شاعر المانيا الفذ. 

ولم يبحث المؤلف عبد الكريم في ماضي غوته الأدبي والفكري والثقافي، فالأمر هذا قد يطول، لكنه يقف على جزئية عجيبة من حياته، يرفض منطق الطبيعة تصديقها. عندما بلغ الثالثة والسبعين من عمره هام عشقا بشابة لم يتجاوز عمرها السابعة عشرة. فتاريخ الأدب العالمي 

” لم ينس ذلك الوهج الاخير للشمعة الباهرة النور، كان الغذاء الروحي الذي دفع غوته الى كتابة اعظم أعماله: مسرحية “فاوست”. ويجمع النقاد على أن شخصية “مارغريت” في فاوست هي صورة طبق الأصل من حبيبة قلبه: “أولريك”، تلك المراهقة التي عشقها.

لغوته مغامرات نسائية متعددة، بدأها في لايبزيغ في عام 1770 بعد أن أحب اكثر من فتاة

من اجمل فتيات المدينة، أخرهن “شارلوت”، التي خلّدها بروايته “آلام فرتر”، وهو بارع في الهروب من ضحاياه، فقد عثر على مذكرات فتاة اسمها “ليلى شونمان”، تقول فيها: 

” اغراني غوته كما فعل مع العديدات من بنات المدينة، اذ أقنعني بأنني الوحيدة من بينهن التي كان يحلم بالزواج منها، ولهذا سوف يخطبني، ولكنه غادر ستراسبورغ منذ خمس سنوات ولست ألومه، فنحن اللواتي كنا نلقي بانفسنا عليه، وهو طموح جدا، لا يهتم بغير شعره”. 

نختزل الزمن، ونقف عند محطة غوته الأخيرة “فيمار”. وهو في الثالثة والسبعين من عمره، في تلك المدينة كان الدوق الأكبر حاكم مقاطعة ساكس فيمار، قد احتضن غوته، وأكرمه عندما قدّم له المال، وشيّد له قصرا لكي يقيم فيه، بل وجعله مستشارا له حتى يتفرغ لابداعاته 

الفنية”. وهنا احب غوته فتاة صغيرة، وطلبها للزواج، واثر ذلك زاره الدوق في قصره متسائلا عن أحواله، فبادره غوته بالقول: “إنني احب الفتاة أولريك حبا جمًا، ولا مفر لي من الزواج منها”. لكن الفتاة لم تحسم امرها بالقبول اوالرفض. اما غوته فقد كان في اشد حالات التيه والانتظار، كما اقام علاقة مع والدة الفيلسوف المتشائم ارثور شوبنهاور. 

 

ارنست همنغواي وتعذيب الضمير 

بعد الحرب العالمية الثانية، أُخذ الروائي الاميركي ارنست همنغواي (Ernest Hemingway) بالحسناء الأوروبيّة اغنيس فون كورفيسكي، لكنه عندما يئس من امكان قبولها الارتباط به، عاد حزينا إلى نيويورك. وحين نُشرت روايته الشهيرة “وداعا للسلاح” جاءته هذه الرسالة على عنوان الناشر: “صباح الخير يا وسيم، روايتك عظيمة، ولكنك لم تف بوعدك، لماذا ذكرت فيها أشياء كثيرة هي كنزي وكنزك وحدنا؟ لعلك الان تعيش قصة غرام؟ هل اخترتها في مثل سنك يا وسيم؟ دعني أصارحك يا أرني أنا لست الفتاة الطيبة الرقيقة التي تظنها، فلكل إنسان عيوبه يا وسيم، لم اكن اريد أن تشوه صورتي في عينيك إذا تزوجتني، فمن المؤكد انك كنت ستعرف كل شيء، وكنت ستكرهني، وهذا ما لم استطع تصوره، حبيبتك ذات الفم الرطب ( أجي) “. 

 

لم يكن همنغواي يعبأ بما كتبته عن نفسها، فهو يحبها رغم كل تجاربها السابقة وكان على معرفة بها، ولم يحب من قبل كما احبها. وفي حزيران 1961، اتجه همنغواي إلى خزانة الاسلحة، وأخرج منها بارودته الاثيرة ( كورونا3)، ووضع في مخزن البندقية رصاصة واحدة، ثم اخرج قلما من جيب قميصه وكتب على ورقة صودف وجودها على المنضدة، وأخذ يكتب عليها: “لم احتمل، انها تلاحقني ليل نهار، وفي عينيها الجميلتين، نظرة عتاب مروعة، لم تكن خائفة مني، كم كنت نذلا، لكنني لم اكن اقصد يا انجي، انت تعرفين انني لم اكن اقصد”. 

ألقى بالقلم وأمسك البندقية، ثم وضع الفوهة في حلقه وضغط على الزناد، منتحرا، متحررا من تأنيب الضمير….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *