سجلوا عندكم

إِرجَع يا عُمَر الزعنّي

Views: 188

الدكتور جورج شبلي

في زمنِ قسوةِ الأحداث التي أنزلَتنا الى الجحيم، فبدَّل ربيعُ عمرِنا اسمَه خريفاً، وأحاطَت بنا ظروفُ اليأس، والهجرة، وتَكبيل الرّجاء، عادَت ملامحُ عُمَر الزعنّي الى بالِنا، وتَراجَعنا، معه، إنتاجاتِ إبداعِه، فظَنَنّا بأنّنا برفقةِ واحدٍ من العَرّافين.

عُمر الزعنّي الشاعرُ الغنائيُّ الشَعبيّ، الذي غلبَت على نتاجاتِهِ النزعة العاميّة، أرسلَ سرايا فكره في مفاصلِ النّاس، كلِّ النّاسِ، وعلى صُعُدِ حياتهم السياسية والإجتماعية والمعيشية…ليكاشفَ ويجاهر، ويفضحَ معالمَ الشَّرك، وهو الأديبُ اللّاذع السّاخر، والمُواجِهُ بدون مواربة، والهازِلُ بدون تهريج، وابنُ الشَّعبِ بدون تَمَلّق.

لم يدَّعِ عُمر الزعنّي، ونحن أيضاً، بأنّه واحدٌ من فرسان الشِّعر، له معلَّقاتٌ ومطوَّلات، فالذي يقفُ على مقطوعاتِهِ التي تبدو، للوهلة الأولى، بسيطةً ساذجة، لا يوازنُ فيها بين الكلمات، ولا يزاوجُ بين الجُمَل، بعيدةً عن البلاغة، لا يسعُ المتأمِّلُ إلّا أن يلحظَ مواقفَ قويّةَ الأثر، مُصاغةً بقالبٍ حرٍّ بعيدٍ عن ملامحِ الأزجال، لكنّه ابتكارٌ يناسبُ تدبيرَ لَحنٍ يُغَنّى.

لقد غنّى عمر الزعنّي مقطوعاتِه، بطَرافة، وبعِدّةٍ من النّغماتِ البسيطة، غيرِ السيمفونيّة، وغيرِ المُعقَّدة، بمعنى أنّ الرَّجلَ لم يثقبْ لؤلؤَ النَّظمِ الموسيقي، ولم تَفكَّ تآليفُه اللَّحنيّة عُقَدَ الأوتار، فلُغَتُهُ مع الأنغام محدودة، لكنّها أَملَحُ من مقاييسِ ” السّولفيج “، فتلاوينُها الفاتنة مُمتِعةٌ لا تملُّ الآذانُ سماعَها، ولا تنصرفُ الأفواهُ عن معاودِتها، والرّجوعِ إليها. حتى قيل : إذا نطقَ عُمر الزعنّي، كانت الأَسماعُ تُطرِقُ، والذّاكرةُ تُسجّلُ وتَحفظ.

 

لقد لُقِّبَ عُمر الزعنّي ” إبن الشَّعب “، لأنه كان يترصّدُ واقعَه، ليكشفَ عمّا يطاولُه من خداع، وغرائز، وموبقات، وأنانيّة، وطمعٍ، وبغضٍ، وتسلّط، ووصوليّة، لا سيّما ما كان ينزُّ من أنفاسِ  “كبار وصغار واقعين بحبّ الكرسي “، ولم يكن يرغبُ في نشرِ ما يرصدُهُ برِفقٍ، ولطف، وهما من باب التملّق والمخادعة، بل كان مكشوفاً وقاسياً، وساخراً، في فَضحِ نزواتِ الرؤوس والنّفوس. وهكذا، لم يكن الزعنّي عازلاً نفسه عن مجتمعه الذي صارَت نارُ كرامتِهِ رماداً، وكان للضَّعفِ فيه نصيبٌ وافر، وللتّراجعِ حظٌّ ظاهر، فالشَّرِفُ ينافي الصّفاء، وانحلالُ الأخلاق أفظعُ من الرِقّ، وعبادةُ الرؤساءِ والزعماءِ الكَذَبَة، يندى لها ما تبقّى من جبين…

لقد رأى الزعنّي مجتمعَه يمضغُ المرّ، وفسادَ المتربِّعين على رقابِ النّاس، عِلّةً مُتحكِّمة، فانبرى بتدليلٍ عالي النّبرة، يشرِّحُ يوميّاتٍ عَظُمَ هولُ مُصابِها، ليوقظَ الشّعبَ من سُنَّةِ الغفلة. وهكذا، كان الزعنّي مشاغِباً، ناقداً، مشَرِّحاً الواقعَ بدون تزلّفٍ، يرى فوقَ غُرَّةِ بلادِهِ نَمَشاً أسودَ دائماً يُقبِّحُ وجهها، حتى أنّه كان مُقتنِعاً بأنّ الشَّوكَ يخلقُ من أساسِهِ شَوكاً، ولن يُصبحَ زهرةً فاتنة.

كان الزعنّي يترجمُ حالةً في نصفِ قصيدة، أو في نصفِ أغنية، ومن دونِ مقدّمات، وبظَرفٍ وسلاسةٍ يزيّنان جملتَه المُنَغَّمة. وكانت مقطوعاته ” المولييريّة ” التّراجي- كوميديّة، في تأثيرها، وجرأتها، وحتى بوقاحةِ لسانِها، تتخطّى الزمانَ والمكان، لِما تتضمّن من احترافيّة في رسمِ مشاهدِ الواقعِ والتي تجمعُ بين المرحِ، والتأمّل العميق. كلُّ ذلك، والزعنّي لم يخفضْ رأسه أمام سلطةٍ أو انتداب، لكنّه أجرى مبضعاً حادّاً في أصحابِ المكائدِ والدّسائسِ، وتصفيةِ حقوقِ النّاس، فهل هنالك أسهلُ وأبلغُ من اختصار واقع حالٍ، بهذا الكلام : ” الدنيا قايمة، والشعب غافل، راحت بلادكم، وما حدا سائل “… وكأنّي بِ عمر الزعنّي لا يزالُ في الحَيّ. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *